في القطعة الأولى من هذا المقال؛ ذكرت: أن قاعدة مراعاة الخلاف تعتبر الأصل السابع عشر من أصول مذهب الإمام مالك. والإمام مالك لم ينص على هذه القاعدة، وإنما تعرف عليها العلماء من طريقته في الاستنباط، وقد عدها أبو العباس القباب: من محاسن مذهب الإمام مالك، وحاصل معنى هذه القاعدة: انتقال المفتي من قول كان يقول به لكون دليله راجحاً عنده إلى قول آخر مرجوح لكونه رجح عنده هذا القول عند المراعاة وذلك لوجود مسوغ. وهذا المسوغ: إذا كانت المسألة لم تقع فإنه يكون للاحتياط، فإذا وقعت كان المسوغ لرفع الحرج. وهذا يعني أن إجراء مراعاة الخلاف يكون قبل وقوع المسألة، وهو الذي يسمى الخروج من الخلاف وهو للاحتياط، ويكون إجراء مراعاة الخلاف بعد وقوع المسألة، وهو الذي سنركز الحديث عليه. وصورة ذلك: أن يفتي الفقيه بالمنع والحظر ابتداء، وأحد الأشخاص عمل بخلاف فتواه ولكن عمله يوافق قولاً آخر من الأقوال المعتبرة. وجاء هذا الشخص يستفتي هذا الفقيه الذي يرى عدم صواب فعله، وتأمل هذا الفقيه فرأى أن استمراره على فتواه التي ترى بطلان فعله قد يسبب مفاسد أكبر لهذا الشخص. أو قد يصادم مقصداً شرعياً، فيفتي في هذه المسألة بعينها بتصحيح الفعل، أو إذا لم يصحح هذا الفعل فإنه يفتي بترتب بعض آثاره عليه وذلك لرفع المشقة عن المستفتي أو لجلب مصلحة له أو دفع مفسدة عنه. وعلى سبيل المثال فإن مالكاً يقول بفساد النكاح إذا تزوجت المرأة بغير ولي، لكن إذا تزوجت بغير ولي فإنه مع قوله بفساد النكاح يراعى الخلاف في هذه المسألة ويرتب بعض الآثار عليه كاستحقاق المرأة المهر والميراث. ومن هنا نعرف ارتباط قاعدة: «مراعاة الخلاف» بقاعدة: «رفع الحرج» كأصل من أصول الشريعة. ونعرف أيضاً: أن مراعاة الخلاف ترفع الحرج عن القاضي وتسعفه؛ لأنها تمكنه من الاستفادة من اجتهادات العلماء في إصدار الأحكام المناسبة. ونعرف كذلك: أن قاعدة «مراعاة الخلاف» يستفاد منها عند نشوء أمور جديدة تستدعي نظراً جديداً، وكذلك عند ظهور إشكالات وضوائق في حال البناء على الاجتهاد الأول؛ على قاعدة: «إذا ضاق الأمر اتسع». Your browser does not support the video tag.