كلمة فتوى لا يقابلها في اللغات الغربية كلمة تؤدي المعنى الشامل لها في اللغة العربية. وقد درج بعض المتخصصين إلى ترجمة المعنى أو بعض المعنى مثل قولهم: legal or advisory opinion لكنني وجدت أن أهل القانون في الجامعات الغربية يستعملون كلمة فتوى مكتوبة بحروف لغتهم هكذا: fatwa وهنا لابد من القول إن المعنى الذي يتولد في ذهن رجال القانون عن الفتوى هو أنها رأي في نقطة قانونية. لكن عندنا ليست فقط رأياً، بل هي حكم يجب الأخذ به، على الأقل من قبل المستفتي. وهنا تكون إشكالية كبيرة. إشكالية تحديد مصطلح « فتوى» ليست جديدة، بل هي قديمة قدم استعمال المصطلح نفسه. ويذهب بعض المستشرقين إلى أن المفتين المسلمين الأوائل لعبوا دوراً يشبه دور الحكماء في القانون الروماني وإشكالية تحديد مصطلح " فتوى" ليست جديدة، بل هي قديمة قدم استعمال المصطلح نفسه. ويذهب بعض المستشرقين إلى أن المفتين المسلمين الأوائل لعبوا دوراً يشبه دور الحكماء في القانون الروماني. ذلك أنهم دعموا بنية القانون الإسلامي وهيكليته. على أن المفتين الأوائل سجلوا فتاواهم على اعتبار أنها تشكّل في مجموعها ما يمكن أن نطلق عليه أدبيات المذهب الديني. وكان مما يؤسف له أن تشكلت مذاهب إسلامية عديدة، وأضحى المفتي لا يتجاوز حدود مذهبه، وأضحت اجتهاداته تدور على مجمل قواعد مذهبه. هذا في الغالب الأعم مع استثناءات معروفة. وفي صدر الإسلام وضحاه لم يكن للفتيا جهاز حكومي أو إدارة حكومية، ولم تكن الفتيا وظيفة. ولم يحدث هذا إلاّ في عصور متأخرة. وكان أغلب المفتين في العصر العباسي من رجال الفقه، ولهم وظائف يعتاشون منها. وكان الفقيه يمثل المثقف في عصره. ولكن كان الفقهاء لا يفتون في المسائل العامة الكبرى مثل القضايا السياسية، أو الحربية، أو الأموال المتعلقة ببيت المال، ولا يفتون في مسائل قد تسبب فتناً كبيرة، ولا يفتون في مسائل قد تضعف من هيبة السلطان، أو تهدد أمن البلاد. ويتركون كل ذلك لقاضي القضاة ومساعديه. وفي أيام فتنة خلق القرآن كان الإمام أحمد بن حنبل يقف صامداً أمام هذه المسألة، ويقف صامداً ضد رأي الخليفة ومن تابعه من الفقهاء ورجالات الفكر. ومع هذا لم يحرر الإمام أحمد فتوى تقول ببطلان صحة خلافة الخليفة، ولم يقل بوجوب نزع البيعة، ولم يقل بوجوب الجهاد ضد الدولة والنظام السياسي القائم. والأهم من ذلك أن الإمام أحمد لم يُفت في حياته بفتوى عامة تطال النظام العام للدولة أو تسبب بلبلة لدى جمهور المسلمين في العراق وخارج العراق. كانت الفتيا العامة من حق قاضي القضاة ومن يساعده من العلماء. ومع أن مذهب الحكومة العباسية كان المذهب المالكي، فإننا لم نر علماء من خارج المذهب يفتون في بغداد في المسائل العامة الكبرى حسب مذهبهم ، لأن أولئك النفر الأعلام عرفوا أهمية تنظيم الفتوى وتحديدها وقصرها على من يعينه الخليفة. وكانت الفتوى في عصور الإسلام المبكرة غير ملزمة، ما عدا الاستشارات الشرعية التي يطلبها الخليفة، والتي تهم البلاد والعباد فإنها تصبح ملزمة بقوة القرار السياسي. ومنذ القرن السادس الهجري تجمعت فتاوى لكل مذهب، وأضحت تلك الفتاوى مرجعاً للقرون اللاحقة. على أن الأمر اختلف في عصرنا هذا، خصوصاً مع الانفجار الذي طال وسائل الإعلام، بحيث أصبحت الفتيا على لسان كل شخص قادر أو نصف قادر، وصرنا في زمن أضحى المفتون يأتون من كل حدب وصوب، وتمتعوا بالشهرة الإعلامية، وغدت الفتيا عملاً يمكن للشخص التفرغ له، والكسب من ورائه. بينما الفقيه في عصور الإسلام الأولى لا يمكنه أن يتكسب من علمه الشرعي. وحيث غدت الفتيا مهنة، فقد كثر الذين امتهنوها، ثم زاد الطلب على من لديه القدرة على إصدار الآراء الشخصية ودفعها للجمهور على أنها فتوى يجب الأخذ بها، ثم توسع المفتون وطفقوا يبحثون في التراكمات الفقهية، ويستخرجون شواذ الآراء، والأفكار، والتعليقات، والتهميشات والأحلام، يخرجونها للناس، ثم توسعوا أكثر عندما وضعوا في روع الناس ضرورة سؤال أهل العلم (هكذا يسمون أنفسهم) عن كل صغيرة وكبيرة، ثم زادوا بأنهم يصدرون عن فقه وتخصص، وأنهم يوقعون عن الله سبحانه وتعالى. وأخيراً تعاقدوا مع الفضائيات، وانتشروا وأثروا. والله يرزق من يشاء. وشاركهم في ذلك خطباء المساجد، وطلاب التخصص الشرعي، والدعاة وحفّاظ القرآن الكريم، وأصبحوا يلقبون أنفسهم بالشيوخ والعلماء. وزاد الطين بلة دخولهم ساحة الفتاوى السياسية، حيث أصبحوا نجوماً/ فقهاء يفتون في السياسة الدولية، ويخاصمون هذا، ويقفون مع ذاك، ويماحكون حكوماتهم، ويثيرون العامة. ثم زادوا بأن قالوا إنهم هم الأحق بالفتيا من علماء الأمة المعروفين، وأطلقوا على أولئك لقب: فقهاء السلطان. وصار عندنا أسواق وحراجات للفتوى ممثلة في صحف سيارة، وقنوات فضائية، ومواقع إلكترونية ورسائل جوالية. وضجرت الأمة الإسلامية من هذا العبث والفوضى، خصوصاً عندما تولى بعض المفتين الترويج للتشدد والتطرف والإرهاب، وإصدار الفتاوى التي تجيز القتل والتفجير والاغتيال السياسي، والانتحار السياسي، وتجيز إشاعة الكذب والفتن والسرقة والسطو باعتبارها من الأعمال الاضطرارية. وهذا ما آلت إليه الفتوى. لهذا كله أصدر الملك عبدالله أمره يوم الخميس الثاني من شهر رمضان 1431ه بإغلاق سوق حراج الفتاوى. ولا يخالجني شك أن غيرة الملك الدينية، وحبه للوحدة والنظام، وسعيه لبناء بلد يحترم نفسه ويحترمه الآخرون كانت وراء أمره. وكان حفظه الله يرى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728ه) من أن فساد الحياة يأتي من أربعة: نصفُ متكلّم، ونصفُ فقيه، ونصفُ نحوي، ونصفُ طبيب. ويهمنا هنا أنصاف الفقهاء. لهذا أقفل الملك عبدالله سوق الأنصاف. وقصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء. هذه أكبر هدية رمضانية يهديها خادم الحرمين الشريفين للمسلمين في شهرهم هذا. ويبقى سؤال مهم وهو: هل ستقوم الجهات المعنية بتنفيذ أمر الملك، أم سنحتاج إلى أمر ملكي آخر؟ الأمر صدر والكرة في ملعب الجهات التنفيذية..