من الملاحظ ظهور أقوال شاذة، ومستحدثة مع قرب أشهر الحج كل عام بشأن بعض الأحكام المتعلقة ببعض المناسك، قد تخالف أداء فريضة الحج على الوجه الذي شرعه الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يزعم أصحابها أنها من باب التيسير والتسهيل على الحجاج مثل (رمي الجمرات قبل وبعد الزوال، والوقوف بعرفات، والمبيت بمزدلفة، والتوكيل في الرمي مع الاستطاعة، والحج بدون محرم)، ما تعليقكم على ذلك ؟،وما نصيحتكم لمن يتبنى أقوالاً وأحكاماً شاذة عند أداء عبادة الحج، وكيف نحمي حجاج بيت الله الحرام من انتشار مثل هذه الأقوال التي تؤثر في صحة الحج؟ عرضنا هذه الأسئلة على عدد من أصحاب الفضيلة، فكانت إجاباتهم على النحو التالي: العلماء (بشر) يصيبون ويخطئون بداية، يقول عضو هيئة التدريس في جامعة المجمعة الدكتور محمد بن عبدالله الطيار: الواجب على أهل العلم بيان شريعة الله للناس، قال تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}، ومع هذا فالعلماء بشر، يصيبون ويخطئون، وقد تصدر من بعضهم أقوال يُنسبون فيها إلى الخطأ، مع عُلو رتبتهم في العلم والورع، وهم في ذلك إن شاء الله مأجورون على اجتهادهم، مسامحون عن خطئهم.. وعلى هذا فمتى تبين شذوذ رأي من الآراء وجب اجتنابه، وترك الفتوى به، وعدم تقليد قائله، ومما يلحق بذلك: البعد عن إعلان الفتاوى المخالفة لما يفتي به كبار علماء البلد، لا سيما إذا عُرفوا بالنزاهة وطلب الحق في فتاواهم، ثم يبقى بعد ذلك النظر في بعض الآراء والفتاوى التي يُدَّعى شذوذها؛ هل هي شاذة في الحقيقة أم لا، والأفضل والأكمل في الفتاوى العامة أن يوكل الأمر فيها إلى الهيئات الشرعية والمجامع الفقهية لترى رأيها في تلك المسائل. وأضاف يقول: إن من أسباب الشذوذ في الفتاوى الجهل بالدليل، سواء أكان الدليل من القرآن، فيغفل عن دلالته على المسألة، أم كان الدليل من السنة فلم يبلغه، أم كان الدليل هو الإجماع فلم يعلم به، وعليه: فعلى العالم أن يجتهد في معرفة الأدلة في كل مسألة، وينظر في كلام العلماء المتقدمين لا سيما الأئمة الحفاظ، وعلماء المذاهب، وينظر في كتب الإجماع والاختلاف، ليجتنب الزلل والشذوذ في فتواه. وينقل الدكتور الطيار عن الفقهاء إطلاقهم لفظ الشذوذ على بعض الآراء الفقهية، ويريدون به أحد معنيين: المعنى الأول: الشذوذ المذهبي: وهو: ما خالف نص الإمام، أو خالف ما عليه جمهور أهل المذهب، وبعضهم يُلحِق به ما ضَعُف دليله من الأقوال في المذهب. وعليه: فإنَّ الرأي الشاذ في مذهب إمام من الأئمة, قد يكون صحيحاً في نفسه، غير شاذ في مذهب إمام آخر، بل قد يكون هو الراجح في بعض المذاهب الأخرى، ولذا تجد بعض أهل العلم من أتباع المذاهب - يُصرِّح بترك الأخذ بقول يرى قوته ووجاهته، معللاً تركه، بكراهة الشذوذ عن المذهب.. والمعنى الثاني: الشذوذ العام: وقد عُرِّف بعدة تعريفات، والمختار منها:أن الشذوذ هو: مخالفة الرأي الفقهي للكتاب, أو السنة, أو الإجماع, أو القياس الجلي. وعن حكم الأخذ بالرأي الشاذ، قال الدكتور محمد الطيار: حكي الإجماع على تحريم الفتوى بالرأي الشاذ، مستشهداً بأقوال أهل العلم المحذرة من الأخذ بالرأي الشاذ ومنهم ما قاله القرافي: «كل شيء أفتى فيه المجتهد, فخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع، أو القواعد, أو النص, أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح، لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس, ولا يفتي به في دين الله -تعالى-»، وقال ابن القيم: «الواجب على من شرح الله صدره للإسلام, إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة, أن لا يحكيها لمن يتقلدها, بل يسكت عن ذكرها, إن تيقن صحتها, وإلا توقف في قبولها, فكثيرا ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له, وكثير من المسائل يُخَرِّجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة, مع أن ذلك الإمام, لو رأى أنها تفضي إلى ذلك; لما التزمها». وخلص فضيلته إلى القول: بهذا يتبيَّن شدة تحذير العلماء من الأخذ بالرأي الشاذ، وتقليد قائله، وأن الفتيا بالرأي الشاذ حرام، ولو كان مسبوقاً إليه ؛ لأننا مُتعبدون بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والتمسك بهما، لا بآراء الرِّجال التي يجوز عليها الخطأ، بل إن الواجب عرضُ آراء الرجال على الكتاب والسنة، فما كان منها موافقاً للكتاب والسنة قُبِل، وما كان مخالفاً لها تُرِك. الخلاف المبني على المدرك الضعيف أما أستاذ الفقه عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم الدكتور عبدالله بن حمد السكاكر فيقول: إن الشاذ عند الفقهاء هو: الخلاف المبني على المدرك الضعيف. والمدرك الضعيف هو: الدليل الضعيف في مقابل القول المبني على الدليل القوي، فإذا كان القول الفقهي يعتمد دليلا ضعيفا في مقابل دليل صحيح صريح محكم قيل لهذا الخلاف: إنه خلاف شاذ، أما إذا كانت الأدلة متقاربة أو أن مستمسك القول قوي فلا يقال له شاذ، وما يتبادر إلى أذهان بعض الناس من أن الشذوذ هو الإتيان بقول لم يكن معروفا عند الناس فهذا لا اعتبار له فالعبرة بأهل العلم وقبل ذلك بالدليل الشرعي، وعليه فإن بعض أهل العلم وطلابه قد يرمون القول المخالف بالشذوذ من باب الإرهاب الفكري وسد باب الاجتهاد في مسائل تشتد حاجة الأمة لإعادة النظر فيها بناء على ماجد من أحوال الناس في هذه العصور المتأخرة. واسترسل قائلاً: فإذا كان فقهاؤنا قد أعادوا النظر الفقهي في الرمي ليلا لتغيّر أحوال الناس وكثرة الحجاج وخطورة القول بحصر الرمي بين الزوال والغروب على حياتهم التي هي أعظم حرمة من الكعبة المشرفة فإن ثمة عشرات المسائل تحتاج إلى إعادة النظر الفقهي فيها بناء على هذه الظروف الجديدة خاصة المسائل التي لم تحسم بنصوص صحيحة صريحة محكمة، إن الجمود على أقوال تراعى فيها السنن ومعهود الناس، مع أن الأدلة تحتمل التيسير، مجازفة بحياة الحجاج وتقليل لفرص الحج على من لم يحج, فلازم الجمود على تلك الأقوال إما المجازفة بحياة الحجاج، أو تقليل أعداد من تتاح لهم فرص الحج من أولئك الملايين الذين تهفو نفوسهم لرؤية بيت الله وحجه قبل أن تتصرم أعمارهم، ولايعني ذلك أنه لاتوجد أقوال شاذة بالفعل بنيت على مدارك ضعيفة في مقابل أدلة قوية، بل هي موجودة بالفعل، والحل في نظري أن يتولى أهل العلم بيان ضعف تلك الأقوال وتهافتها، والحل الأمثل في نظري هو بإنشاء هيئة فتوى جماعية، أو مجمع فقه خاص بفتاوى الحج يُعين فيه من لهم اهتمام خاص بمسائل الحج، ولهم فقه دقيق ونظر عميق وتحرر من ربقة التقليد، واطلاع على أحوال الحج، والمشاق التي تلحق الحجيج، فإذا وثق الناس بهذه الهيئة أو المجمع ماتت الفتاوى الشاذة بترك الناس لها. أما من يتبنى أقوالا شاذة بالفعل رغبة في إرضاء الناس أو طلبا للشهرة فإني أذكره بقول عقبة بن مسلم، قال: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا فكان كثيرا ما يسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليّ: فيقول أتدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرا إلى جهنم. والله المستعان. الحجة على المتلقين ويصف الباحث المتخصص في الفقه وأصوله الدكتور أحمد بن خلوفة الأحمري فيقول: الفتوى نوع من أنواع البيان الذي تقوم به الحجة على المتلقين، ولما لها من تأثير مهم على عبادات الناس، ومعاملاتهم وجب أنّ تكون محفوفةً بسياجٍ متيْنٍ يَصْونها منْ تحريف الغاليين وانتحال المبْطلينَ؛ ولما كان الفقهُ الإسلاميُ بتراثه الواسعِ الكبيرِ يعجُ بكثيرٍ منْ الاجتهادات والآراء والفتاوى والتي ليست على درجةٍ واحدةٍ من القوةِ، فهي تختلف منْ حيث قربها من الدليل، وموافقتها للنصوصِ الشرعيةِ، الأمر الذي يجعل التعامل مع هذا التراث يخضع ضرورةً لمنهجية مقيدة بأصول علمية تتناسب مع ما قرر في أصول الفقه. ومضى يقول: وفي مثل هذه الأيام التي يستقبل فيها الناس ركنا من أركان الإسلام يحصل حال تأدية هذا الركن بعض النقص والقصور سهواً أو عمداً، وعلى ذلك فيحتاج الناس لذلك فتوى تخرجهم عن هذا الحرج ,وتلك المشقة التي نزلت بهم، وهنا يجدر بهم البعد كل البعد عن الفتاوى الشاذة، والفتاوى التي تخالف ما عليه إجماع العلماء ويمكن معرفة الأقوال الشاذة بالنظر إلى مخالفتها الفجة للنصوص الصريحة أو خرقها للإجماع، أو مخالفتها لأصول الشريعة وغاياتها، وعلى هذا فمتى ظهر شذوذ قول من الأقوال فإنه لا يجوز الإفتاء به، ولا يعد شيئاً في الخلاف، حتى لو صدر من أهل الاجتهاد فضلاً عن غيرهم، يقول الإمام القرافي :(كل شي أفتى فيه المجتهد فخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع، أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ,ولا يفتي به في دين الله) أ.ه وقد أطال علماء الأصول في معالجة هذه القضية في كثير من المظان، منها: تتبع الرخص، والتقليد، وزلة العالم، والتلفيق وغيرها من المظان التي تعرف في بابها.