على متن سفينة يونانية ودّعت قبل ساعات أحد الموانئ التركية متجهة إلى لبنان، ولدت طفلة جميلة لأم هاربة مع ولديها بسبب خلاف عائلتها مع السلطات التركية، حيث كتب لها القدر «أغنية» حزينة بلحن أشبه بالأرجوحة في صعوده وهبوطه، تماماً كأمواج البحر المتراقصة التي شهدت صرخاتها الأولى، لتعيش «آمال» بعد ذلك حياة صاخبة، ما بين «قاع» الفقر والحرمان والبؤس وبين «سلم» المجد والأضواء والشهرة، وتصبح رغم عمرها القصير قيثارة الفن الخالدة على مر العصور. تُعتبر المطربة السورية أسمهان موهبة غنائية نادرة وأسطورة فنية استثنائية قال عنها الملحن المصري الشهير داود حسني الذي أطلق عليها اسم أسمهان: «صوتها أشبه بأمل جديد في العالم العربي». ولدت آمال فهد الأطرش في العام 1912 داخل غرفة صغيرة على متن سفينة يونانية، وهي ابنة الأمير فهد الأطرش أحد أمراء الدروز في سورية ويعمل مدير ناحية في قضاء مدينة ديمرجي التركية، وأمها عالية من دروز لبنان وتنتمي لعائلة المنذر، وقد أنجبت قبل آمال ولدين هما فؤاد وفريد المطرب والملحن الشهير. تنقلت العائلة بين سورية وتركيا واستقر بها المقام في بيروت بعد أن صدر قرار من المفوض السامي الفرنسي بتعيين الأب معتمداً من قبل الفرنسيين عن جماعته الدروز في لبنان، وقد أنجبت الأم في تلك الفترة طفلين آخرين هما وداد وأنور، وقد لقي الأب مصرعه في العام 1924، وفرّت الزوجة بأبنائها الخمسة لمصر بحراً بعد تدهور الوضع واستمرار المعارك بين الثوار الدروز والفرنسيين. في مصر، أقامت الأرملة مع أطفالها في حي الفجالة في القاهرة، وبسبب حالة الفقر والجوع والحرمان اضطرت للعمل في الأديرة والغناء في حفلات الأفراح الخاصة لتوفر لقمة العيش لأطفالها، وفي هذه الفترة شق فريد طريقه في احتراف الغناء في الملاهي ثم تبعته أخته أسمهان. في عمر السادسة عشرة، سجلت أسمهان أولى أسطواناتها الغنائية لشركة كولومبيا الشهيرة، والتي حملت بصمة كبار الكتاب والملحنين، وقد قال عنها الموسيقار محمد عبدالوهاب حينما سمعها تُغني في بداياتها: «أسمهان فتاة صغيرة ولكنها تحمل صوت امرأة ناضجة». لمع اسمها وفاقت شهرتها الوطن العربي وأصبحت تُقارن بعمالقة الغناء العربي، وقد حاولت عائلتها الكبرى في سورية منعها من احتراف الغناء حيث حضر ابن عمها الأمير حسن الأطرش للقاهرة من أجل ذلك ولكنه أعجب بها وتزوجها وانتقلا إلى جبل الدروز في لبنان وأنجبت ابنتها الوحيدة كاميليا، ولكنها لم تحتمل البعد عن القاهرة وأضوائها وانفصلت عن زوجها. العام 1940، شهد أول ظهور سينمائي لها بمشاركة أخيها فريد الأطرش في فيلم «انتصار الشباب»، كما شاركت في نفس العام في فيلم «أفراح الشباب»، وهو من إخراج أحمد بدرخان الذي أصبح زوجها ولكنهما انفصلا بعد 55 يوماً فقط، وفي العام 1944، مثلت فيلم «غرام وانتقام» بطولة يوسف وهبي وأنور وجدي. وقد غنّت أسمهان بصوتها فقط في بعض الأفلام، حيث احتلت ومازالت تلك الأغاني الخالدة صدارة الذائقة الطربية العربية كأغنية محلاها عيشة الفلاح ومجنون ليلى وليت للبراق عينا. حياة قصيرة جداً لم تتجاوز ال31 عاماً هو كل عمر هذه الفنانة الملهمة التي مثلت ثلاثة أفلام فقط، وغنّت 50 أغنية تحفظها الذاكرة الغنائية العربية في «أسطوانة الفن الأصيل». أسمهان ذات الصوت السخي والحنجرة الفياضة، مطربة فريدة لن تتكرر، حصدت إعجاب وشغف الجماهير العربية، وتناول سيرتها المثيرة الكثير من الكتاب والصحفيين، وأنتج مسلسل عربي في عام 2009 حمل اسمها تابعه الملايين من عشاق صوتها الشجي، كما احتفل محرك البحث الشهير «قوقل» في 25 نوفمبر 2015 بالذكرى ال103 لميلادها. في العام 1944، لقيت أسمهان حتفها في بحيرة على طريق رأس البر بمحافظة دمياط المصرية إثر انحراف السيارة التي كانت تقلّها، وكأن البحر الذي شهد ولادتها وغرقها قد نسج «شراع» رحلة هذه الأسطورة التي جاءت في زيارة خاطفة لتسحر القلوب وتأسر العقول، تاركة سر موتها نوتة موسيقية غير مكتملة. Your browser does not support the video tag.