رغم هذا النهج الطائفي الواضح الذي مورس إلا أنه لا تتوافر في مشروعات التغيير الديموغرافي في «سورية المفيدة»، مقومات الاستمرارية والاستقرار، ذلك أن القائمين عليه أقلية تحيطهم امتدادات سكانية كبيرة من نسيج السكان المهجرين، الأمر الذي يجعل التغييرات الديموغرافية التي نجح النظام في تحقيقها، مجرد محاولات من المستبعد أن تستقر وتتحول إلى حقيقة ديموغرافية ثابتة. سورية المفيدة تطورت عمليات التغيير الديموغرافي بداية العام 2013، حيث تم تأطيرها كأداة من جملة أدوات تحقيق الاستراتيجية الإيرانية في سورية المعروفة بالحفاظ على «سورية المفيدة» بما يضمن وجود النظام في الشريط الواصل بين دمشق والساحل باعتباره مراكز الثقل السياسي. لذلك دعمت إيران حليفها النظام السوري بكل إمكاناتها المادية والسياسية والعسكرية، وجاءت إلى سورية برجلها وخيلها وخيلائها وبأذرعها الطائفية كافة، ولعبت مع الأطراف واللاعبين الدوليين فوق الطاولة وتحت الطاولة، وأخرجت مصالحها في سورية من دائرة المساومة أو المقايضة، ومضت مع النظام في مشروعهما للتغيير الديموغرافي، ضاربين عرض الحائط بالقيم والمبادئ والقوانين كافة. ويمكن تسجيل بدء هذه المرحلة مع حملة حزب الله وقوات النظام على مدينة القصير في مايو 2013، لتنتقل بعدها سياسة التهجير إلى العقد الاستراتيجية الواقعة ضمن سورية المفيدة، ووفقاً للإحصائيات المستمدة من عدة مصادر متوافرة على شبكة الإنترنت، فقد هجر النظام السوري والقوات الموالية له بشكل قسري تقريباً 138 منطقة توزعت بين 112 منطقة يغلب عليها المكون العربي السني و26 منطقة ذات غالبية تركمانية. (سورية المفيدة) استراتيجية الملالي لصنع دويلة طائفية دويلة طائفية فقد أظهرت الأيام الأولى للثورة استعانة نظام الأسد بأطراف خارجية «إيران وميليشياتها» لمساعدته في إخماد الثورة. وتوضح خريطة المجازر التي جرى ارتكابها في بداية الثورة تبلور خيار إنشاء دويلة طائفية في جزء من سورية وذلك كمخرج من الأزمة التي تكشف أنها لن تنتهي كما يرغب نظام الأسد، وانطلاقاً من ذلك بدأ التأسيس ليوم آتٍ لا محالة عبر عمليات تطهير ممنهج، غير أن هذا الخيار سيصار إلى تحديثه ودمجه في إطار المشروع الإيراني في المنطقة. ذلك أن ملالي إيران وبعد اختبارهم لردود الفعل الضعيفة للمجتمع الدولي، اعتبروا أن الأحداث في سورية يمكن التعامل معها بمنطق تحويل المخاطر إلى فرص، وذلك من خلال الاستثمار العسكري الكثيف في الحرب في سورية، وتحويل ما كان افتراضياً، سورية كجزء من المشروع الإيراني، إلى واقع حقيقي ينطوي على مرتكزات من أرض وبشر وعقارات. مهمة مستعجلة نجد أن التفريغ الطائفي في سورية بدأ بالظهور بشكل فج وعنيف في مناطق جبلة وبانياس، كمنطقة أولى يتوجب إفراغها من سكانها، وبدت هذه مهمة مستعجلة يتوجب إنجازها بأسرع وقت ممكن للوقوف على خيار الدويلة الطائفية بشكل صلب. فارتكبت المجازر بحق سكان تلك المناطق، البيضا وبانياس، بالإضافة إلى التنكيل بأحياء اللاذقية السنية. وفي ظل انشغال العالم حينها، عمد النظام إلى اعتقال الآلاف من تلك المناطق وتغييبهم في السجون، الأمر الذي سيشكل إنذاراً صريحاً للغالبية السنية على أن استمرار بقائهم سيكلفهم حياة أبنائهم. كما بدأ استراتيجية التطهير المكاني في محافظة حمص عبر تهجير أحياء بابا عمرو والسباع والخالدية وعشيرة وكرم الزيتون والرفاعي والبياضة والسبيل ووادي العرب ومنطقة جوبر والسلطانية، وأحياء كرم الزيتون والرفاعي، والبياضة، ووادي العرب وحي السبيل. وفي تحرك يسعى إلى تجريد السكان السنة من أملاكهم، قام مجلس محافظة حمص التابع للنظام بوضع «تحذيرات» على أبواب المحلات في السوق القديم بمنطقة حمص القديمة تطالب أصحابها -المهجرين أصلاً-بالعودة إلى فتح محالهم، وإلا سيجرى تسليمها إلى آخرين. ويقصد بالآخرين هنا العلويين والشيعة لأن النظام لن يمنح المحال لأحد من دون الحصول على موافقات أمنية، ما يعني أن الفرصة لاستملاك هذه المحلات للعلويين في حمص أو الشيعة الغرباء الذين يتوافدون على المدينة للسكن فيها. وللمضي في التغيير الديموغرافي في مدينة حمص، أحرقت قوات النظام وميليشيا «حزب الله» السجلات المدنية والعقارية للسكان، ما يعني ضياع بيانات آلاف الأسر التي تثبت أحقية تواجدها في حمص وامتلاكها العقارات والمنازل، وبالتالي فإن آلاف السوريين باتوا بلا حقوق في حمص. مصادرة الأملاك فمن أجل تسهيل تمليك الإيرانيين وميليشياتهم قام الأسد باستصدار قانون يسمح فيه بمصادرة أملاك من يعتبرهم مساندين ل «الإرهاب»، أي المعارضين الذي فرّوا من البلاد بسبب بطش القوى الأمنية، حيث تم استملاك هذه العقارات ووزعت على الضباط من قيادات «حزب الله» وإيران، والذين أصبحوا يمتلكون بطاقات هوية سورية، بالإضافة إلى بطاقاتهم اللبنانية أو العراقية أو الإيرانية أو الأفغانية. وهذه العقارات ليست فقط في دمشق بل في حمص والنبك وحوران وطرطوس والعديد من البلدات والمدن السورية. وهكذا، فإن دمشق تتحول من مدينة عربية إلى ضاحية من ضواحي طهران، بما يعنيه ذلك من تفكيك لنسيجها الأصلي، وصنع آلية تنفيذية تعمل باقتدار على إنجاز مهمة التغيير المنشود، مدينة مخنوقة بحواجز العسكر والمخابرات والشبيحة، يتزامن ذلك مع تفريغ محيط دمشق من سكانه السوريين، وإحلال أهالي المقاتلين الآتين من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان مكانهم، ومنع سكانها السوريين من العودة إليها. ثم أخذوا بالتوسع بالمزارات المزعومة وتنشيط العمران في محيطها والقيام بأنشطة اقتصادية واستحداث مكاتب للتشيع حيث تحولت مدينة السيدة زينب بأغلبيتها السنية إلى مدينة ذات أغلبية شيعية وصار الوجود الشيعي منتشراً بكثرة بمحيط السيدة رقية في دمشق القديمة. الدولة لا تصالح تشكل جميع المصالحات الحاصلة في سورية انعكاساً لحجم الكارثة التي عاشتها تلك المناطق، فقد اعتمد الأسد وميليشياته سياسة الأرض المحروقة والحصار الشامل تجاه المناطق الثائرة، دون الالتفات لحجم الضحايا وطبيعة المعاناة التي يسببها للمجتمعات المحلية، وقد أقرت الكثير من المنظمات الدولية، ومنها الأممالمتحدة، أن هذه السياسات تشكّل جرائم حرب موصوفة، كما اكتفى العالم بذلك دون أن يتقدم خطوة في اتجاه إنقاذ المحاصرين والواقعين في دائرة نار سياسات الأرض المحروقة. وبسبب قلة الدعم للمعارضة، والنقص في الذخيرة وانقطاع خطوط الإمداد وقصف الطيران وارتكاب المجازر، معطوفاً على ذلك الدعم اللامحدود الذي يتلقاه نظام الأسد من روسياوإيران، ساهم في صناعة هذا النمط من المصالحات، وفي جميع الحالات شكل عامل حماية المدنيين عنصراً أساسياً في قبول المصالحات وورقة ضاغطة بيد نظام الأسد. وليس خافياً مدى الترابط في سورية بين نظام الحكم والدولة، إذ يتصرف ممثلو النظام بصفتهم الدولة وبالتالي فإنهم على حق دائماً وإنهم غير ملزمين بالاعتراف بالأخطاء التي يرتكبها النظام، وإن ما يقدمونه عبر عملية المصالحة لا يعدو أن يكون فرصة للنجاة بالحياة بدل الموت، وأن هذه المصالحات تعني بالدرجة الأولى اعتراف الأفراد والمجتمعات المحلية برؤيتهم الخاطئة تجاه الثورة ومحاربة النظام. وأن الدولة كانت على الدوام تطبق القانون والدستور، وهي بعكس كل تجارب المصالحة في دول العالم حيث يعتبر النظام (الدولة) طرفاً في الصراع ويحاكم ممثلوها ومؤسساتها وتلتزم بكافة الاستحقاقات التي تترتب عليها. مخاطر المصالحات تنطوي المصالحات التي يفرضها النظام والتي يتم عقدها وفق صيغتها الحالية على مخاطر كبيرة تتجاوز مدى تأثيرها على الثورة إلى مستقبل سورية، بما فيه من إعادة تشكيل للخريطة السكانية والتوزيع الديموغرافي. ولا شك أن اعتماد المصالحات بوضعها الحالي يشكل خطراً على قضية السوريين، ذلك لأنها تبرئ نظام الأسد من كل جرائمه تجاه السوريين طيلة سنوات الحرب التي شنها عليهم، كما أنها تجعل مخرجاتها قانونية وشرعية، خاصة ما تعلق منها بترحيل المواطنين ونفيهم وعمليات التغيير الديموغرافي. ويقوم هذا المشروع من خلال استبدال مكون محلي أصيل بمكونات مجتمعية متشيعة من مناطق أخرى وبما يؤثر على المعادلات الأمنية والسياسية لسورية المستقبل. وأيضاً إضعاف الموقف التفاوضي للمعارضة وتكريس حكم الأسد، ذلك أن المعارضة تخسر أوراق قوتها وتواجدها من خلال هذه المصالحات. فأي مصالحة لا تنطوي على الاعتراف بحق الضحايا ورد الاعتبار إليهم وضمان عدم تكرار الفواجع بحقهم، وما لم تتضمن إحالة واضحة للمسؤوليات، وما لم تكن ضمن سياق استراتيجي يهدف إلى الانتقال إلى مرحلة مختلفة، هي مجرد عمليات تدليس لن يكون لها شرعية كما أنها لن تدوم طويلاً. المتاجرة بالوطنية شكّل خطاب بشار الأسد في 26 يوليو 2015 الحد الفاصل بينه وبين الشعب السوري، وهو الخطاب الذي قال فيه: «الوطن ليس لمن يسكن فيه أو يحمل جواز سفره، الوطن لمن يدافع عنه ويحميه»، وقال «الشعب الذي لا يدافع عن وطنه لا وطن له ولا يستحق أن يكون له وطن»، كان ذلك تبريراً لمنح الميليشيات الطائفية الداعمة له الجنسية، بالمقابل تسحب الجنسية من معظم الشعب الرافض له. والأمر بالغ الدلالة أن يقول لمجموعة من الصحافيين والمحللين الأميركيين والبريطانيين في نهاية أكتوبر 2016، أي بعد أكثر من سنة على خطابه المشار إليه، إن «النسيج الاجتماعي في سورية أصبح أفضل من ذي قبل»، طبعًا هذا بعد قتل أكثر من ست مئة ألف، وتشريد وتهجير نحو نصف الشعب السوري. لا لعودة المهجرين يأخذ رعاة هذا المشروع في حسبانهم العمل بعد أن يحققوا انتصارهم ويستتب لهم الأمر، كما يتوهمون، على الحيلولة دون أن يعود المهجرون خارج البلاد إلى بلدهم، ودون أن يعود المهجرون داخله إلى مدنهم وبلداتهم وبيوتهم. حيث تتبع إيران وحليفها نظام الأسد، جملة من الأساليب لتحويل العملية إلى أمر واقع يصعب تغييره في المستقبل، وذلك من خلال التدمير الممنهج للمناطق المستهدفة بما يجعل الحياة فيها مستحيلة، كما يجعل إعادة بنائها أمراً صعباً، وبالتالي دفع أبناء تلك المناطق إلى عدم التفكير بالعودة لها حتى لو انتهت الأحداث في سورية، إضافة إلى عمليات الحصار الطويلة وتدمير مرتكزات الحياة الأساسية فيها، كالمخابز والمدارس والمستشفيات، وإطالة أمد الحرب وتعقيد الحل السياسي، وتدمير دوائر السجل العقاري لتضييع حقوق السكان وضمان عدم قدرتهم على إثبات ملكيتهم، وشراء العقارات لضمان السيطرة على مفاصل الاقتصاد. أوهام التغيير الديموغرافي الحقيقة أنّ التغيير الديموغرافي بحاجة لعشرات السنين حتى يحدث ويستقر، كما أنه بحاجة لعنصر بشري كافٍ يستوطن المناطق التي يتم إخلاؤها، بالإضافة إلى تأمين حماية هذه المناطق بشكل دائم حتى يتم إعمارها واستثمارها، ولا يملك النظام السوري وحلفاؤه لا الإمكانات ولا العنصر البشري ولا الوقت لتحقيق ذلك. Your browser does not support the video tag.