خلال نقاشاتنا السياسية، قبل الثورة السورية، كانت كلمة «تقسيم سورية»، تثير حساسية وامتعاضاً ورفضاً، من غالبية السوريين، خصوصاً القوى السياسية، فضلاً عن أنها كانت من المحرمات والمحظورات، تعاقب سلطة نظام الأسد كل من يدعو إليها أو يتبناها، أو حتى يشير إليها، عقاباً شديداً، يصل إلى اتهامه بالخيانة والعمالة، ورميه في السجن. كان واقع الحال، يشير إلى أن جذور تقسيم سورية، كانت تنمو شيئاً فشيئاً مع ممارسات الفئة المتسلطة في النظام الذي كان يرفع شعار الأمة العربية الواحدة، مع حرصه على تغييب أشكال السياسة، وإحكام الرقابة على الشعب السوري ومكوناته، الاثنية والدينية والعشائرية. وجاءت الثورة السورية في آذار (مارس) 2011، كي تعبّر عن لحظة إعادة الاعتبار للسياسة، ولعودة المجتمع السوري إليها بهدف تحويلها إلى فاعلية اجتماعية، سياسة لها فضاؤها العام، الذي يتسع للجميع، وقد أطلق ناشطوها شعارات ضد تسلُّط السلطة على المجتمع، وممارساتها التقسيمية، وبناها الثقافية، التمييزية والإلحاقية والتهميشية، فكان «واحد واحد واحد... الشعب السوري واحد»، أحد الشعارات المؤسسة للثورة السورية. ولعل حراك الثورة الاحتجاجي السلمي، الذي يندرج في حقل السياسة، كان رداً على سنوات طويلة من التغييب والإقصاء والتهميش، وموجّهاً ضد الشعارات الأيديولوجية المزيفة للسلطة، التي تقفز فوق الوطني إلى القومي، منادية بوحدة الأمة العربية، فيما تمارس أجهزتها تقسيماً مذهبياً ومناطقياً وإثنياً، وتعمل على إلحاق سورية، وطناً وشعباً، بما يخطط له حكام وملالي إيران، الذين توغلوا في تنفيذ مشروع قومي توسعي، هدفه الهيمنة، وتحكمه عقلية الثأر من تاريخ مضى، وينظر إلى سورية على أنها تجمُّع سنّي معاد، يجب تغيير بنيته الديموغرافية وإعادة هندسته اجتماعياً، لذلك لم يتوان حكّام إيران عن حشد أنواع الميليشات التي أنشأوها في العالم العربي وخارجه، ودفعوا بها إلى سورية، للقتال إلى جانب النظام الأسدي المستبد. وركّز داعمو النظام وحلفاؤه، خصوصاً الإيرانيين والروس على إجهاض حلم السوريين باستعادة الحرية والكرامة، وحرمانهم من الانتقال إلى دولة مدنية ديموقراطية. وقاموا بفعل كل شيء، لقتل الثورة، وحرفها عن مسارها وأهدافها، وسلكوا شتى الوسائل لإدخال سورية في أتون حرب إقليمية ودولية، بإقحام ميليشيات الحرس الثوري وميليشيا «حزب الله» الإرهابي وسائر الميليشيات المذهبية، العراقية والأفغانية وسواها. ولا شك في أن عوامل أخرى، داخلية، ساهمت في ذلك، خصوصاً بعد محاولات ضرب الثورة، ومنعها من تجسيد إجماع وطني قويّ، حيث ظهر أن ممارسات النظام الأسدي التفتيتية والتقسيمية فعلت فعلها لدى قطاعات من الطيف السوري، فضلاً عن إسهامات القوى الإقليمية والدولية، التي لا تنظر إلى سورية إلا بوصفها موقعاً جيوسياسياً مهماً بالنسبة إليها. وأخذت أحاديث التقسيم تطفو شيئاً فشيئاً، مع سيل التحليلات والتصوُّرات التي تحاول رسم مستقبل لسورية والسوريين. ومع تحوُّل الأزمة الوطنية العامة، التي سببها تعامل النظام مع «مشاة الثورة العزّل»، إلى ما يشبه الحرب العبثية، أو ما يزيد ، خصوصاً مع التدخُّلين الإيراني والروسي، بدأت أفكار التقسيم تلقى رواجاً في النقاشات والتحليلات، بل تجد متحقّقها على الأرض. ولعل أول مُتحقَّق لمحاولات تقسيم سورية حدث في الشمال السوري، مع تشكيل كانتونات الإدارة الذاتية، التي فرضها حزب الاتحاد الديموقراطي (PYD)، الذي يُعتبر نسخة سورية لحزب العمال الكردستاني (PKK)، حين أرسى دعائم ما يشبه دويلة لشعب، له برلمان، دعاه «مجلس شعب غربي كردستان»، وشكل قوات عسكرية، دعاها «قوات حماية الشعب»، وشكّل أيضاً شرطة معروفة باسم «أسايش»، لعبت دوراً كبيراً في ملاحقة وقمع الناشطين الأكراد المختلفين مع توجُّهات الحزب وممارساته التي تمخّضت أيضاً عن حكومة ودستور ونظام تعليمي خاص بأجندته. وأثيرت شكوك حول علاقته بالنظام الأسدي، منذ أن سحب النظام قواته وأجهزته من المناطق ذات الغالبية الكردية، وتركها في عهدة مسلحي هذا الحزب، الذين سبق أن تمركزوا فيها منذ ربيع العام 2011، وهناك من يرجع العلاقة إلى ما قبل انطلاق الثورة السورية، ويسوق حججاً. وليس حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي وحده من استغل المتغيرات في سورية، بل النظام الأسدي وتنظيم الدولة «داعش» أيضاً، إذ تحدّث الأسد عن «سورية المفيدة»، التي تعني بالنسبة إليه دويلة علوية، فيما أقام تنظيم داعش «دولة الخلافة»، الأمر الذي بات يبرر المخاوف على وحدة سورية، فضلاً عن محاولات بعض الفصائل المسلحة، الإسلامية الجهادية، تنفيذ أجنداتها الخاصة، بعدما عبّأت فراغ القوة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام الأسدي، وراحت تقيم سلطة الأمر الواقع على رغم إرادة معظم السكان الرافضين لتوجهاتها وممارساتها. ولعل تسليط الضوء على بعض نماذج الهدنات التي يعقدها النظام وحلفاؤه مع المقاتلين، يظهر مسعى النظام التقسيمي، إذ يتم إخراج المقاتلين ومن تبقّى من سكان المناطق المحاصرة، وترحيلهم إلى سورية الأخرى «غير المفيدة». والملاحظ أن الإيرانيين والنظام يلجأون إلى التغيير الديموغرافي، من خلال شن حرب شاملة، بالتزامن مع الحصار والتجويع والقصف والترهيب، وبعد إنهاك المناطق المستهدفة، يجرى عقد هدنات، تفضي إلى ترحيل مقاتليها وسكانها، واستبدالهم بآخرين، إما إيرانيين أو من «حزب الله» والميليشيات العراقية، أو آخرين من شمال سورية، ويعوّل النظام وحلفاؤه على أن يتحوّل المستوطنون الجدد جزءاً من كتلة طائفية متراصة. واشترى تجار إيرانيون عقارات وأراضي في أحياء من العاصمة دمشق وفي حلب وحمص، إضافة إلى توطين عائلات لمقاتلي «حزب الله» وميليشيات أفغانية في مناطق مختلفة من العاصمة ومن حمص ودرعا والسويداء، ويدخل في هذا السياق قيام أثرياء النظام، وخصوصاً رامي مخلوف، ابن خال الأسد، بإقامة مشاريع إنشائية ضخمة في دمشق، بعد تهديم وجرف بعض الأحياء والمناطق، مثل حي القابون وبرزة وسواهما. والأخطر، ما تقوم به الأجهزة الاستخبارية والعسكرية من مصادرة لممتلكات اللاجئين، بعد أن أصبح أكثر من نصف الشعب السوري إما لاجئاً أو نازحاً، وباتت ممتلكات هؤلاء مستباحة من أزلام النظام والشبيحة والأجهزة الاستخبارية، كأن هؤلاء الفارين من القتل والسجون لم يعودوا سوريين، في نظر النظام، تطبيقاً لما قال الأسد من أن سورية ليست لمن يحمل جنسيتها، بل لمن يدافع عنها، أي أنه في معيار الأسد الفاقد الشرعية والأهلية، لم تعد سورية للسوريين، بل ملكاً للميليشيات الإيرانية وميليشيا «حزب الله» والمرتزقة الأفغان والعراقيين وسواهم، ممن يقاتلون دفاعاً عن النظام، ولا شك في أن سورية وفق هذه المعيارية أيضاً باتت للمحتلين الروس. واليوم، ليس خافياً أن نظام الأسد وحلفاءه الإيرانيين والروس، يسعون إلى تقسيم سورية إلى كانتونات، ومحاولة إفراغ المدن والبلدات والمناطق من سكانها، المنتمين للأكثرية، وتوطين سواهم من أقلية بعينها، الأمر الذي يفسر إصرار نظام الأسد على عدم السماح لسكان حمص القديمة بالعودة إلى بيوتهم، بعد توقيع الهدنة، والأمر نفسه ينطبق على باقي المناطق التي يرحّل مقاتلوها ومدنيوها إلى سورية الأخرى. في المقابل، تدعم روسيا قوات حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي عسكرياً، وقامت بفتح ممثلية لهذا الحزب في موسكو، إقراراً منها بدعم مشروع الكانتون الانفصالي في شمال سورية، وفي الوقت نفسه، لا تستهدف غارات مقاتلاتها «تنظيم الدولة»، في شكل جدّي، في حين أن غاراتها على مناطق سيطرته تستهدف المدنيين بالدرجة الأولى، تنفيذاً للسعي الروسي، إلى تمكين «تنظيم الدولة»، كونها تدرك جيداً أنه الوجه الآخر للنظام. طموح النظام وحلفائه الروس والإيرانيين في سورية المفيدة، لن يتحقق، ليس لأنه لا يمتلك أي مشروعية فقط، بل لأن النظام وحلفاءه ليس همهم الحفاظ على طائفة بعينها، أو الانتصار لها، بل هم يستخدمون الطائفة العلوية وقوداً في حربهم الخاسرة، كما أن أي كيان انقسامي سيعاني من اهتراء داخلي، يفضي إلى هلاكه، في ظل نظام دموي، سقط منذ اليوم الأول للثورة السورية. وحديث التقسيم تردّد أخيراً على لسان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، مترافقاً مع التهديد بالخطة «ب»، ولقي صداه في كلام نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف حول اعتماد النظام الفيديرالي للحكم المستقبلي في سورية، الأمر أثار مخاوف وتساؤلات حول التناغم بين التحذير الأميركي من وجود خطة بديلة في حال فشل تطبيق الهدنة في سورية، وبين التفضيل الروسي لسورية كونفيديرالية. وتنهض مقولة التقسيم على أن مجريات الحرب خلال السنوات الخمس أفرزت واقعاً جديداً، يعكس الجماعات الموجودة على الأرض، بناء على روابط قومية أو دينية مذهبية، وتسيطر قوى عسكرية تمثلها لحمايتها والدفاع عن حقوقها. وهي مقولة تفقد صدقيتها أمام حقيقة أن أياً من القوى العسكرية المسيطرة لا يمثل أي جماعة بعينها في سورية، قوميّة كانت أم دينية، فلا «داعش» يمثل السنّة ولا نظام الأسد يمثل العلويين ولا حزب الاتحاد الديموقراطي يمثل الأكراد السوريين، بل هم يمثلون قوى مغتصبة للأرض، ويسعون إلى سلب إرداة السوريين، بعد تفريقهم إلى جماعات منفصلة ومكونات، فيما ردّت تظاهرات السوريين في الرابع من آذار (مارس) الجاري على دعوات الانفصال برفع شعارات الثورة الأولى، والتي زينها شعار «واحد واحد واحد... الشعب السوري واحد»، و «لا للتقسيم» و«لا للفيديرالية» و«لا للطائفية». * كاتب سوري مقيم في تركيا