مازال الكثير من الناس يعد الواسطة هي السبيل الوحيد لإنهاء معاملاته الخاصة عند الدوائر الحكومية والشركات، حيث يتخوف من المبادرة بنفسه لإنهاء ما يخصه، وأول ما يتبادر إلى ذهنه كيفية الوصول لهذا الموظف أو المسؤول الذي لديه معاملته عن طريق الأقارب أو المعارف، حتى أصبحت ثقافة الواسطة متأصلة فينا، إذ لا ننجز عملاً أياً كان دون أن تخطر الواسطة ببالنا، ولاشك أن السبب في ذلك يعود إلى بعض المسؤولين الذين يتجاوزون النظام في سبيل تحقيق مصالح أصحاب الواسطة لأسباب مختلفة، متغاضين عن الكفاءة والمعرفة والمؤهلات، ومهتمين فقط بالاستثمار في بناء العلاقات وتحقيق مصالحهم الشخصية. تفعيل الأنظمة وقال د.فارس بن عبدالله العصيمي -وكيل كلية الحقوق بجامعة الملك فيصل-: إن هناك من يرى الواسطة الطريق الأقصر والأسهل لإنهاء غالبية أمورهم، وقد يكون ذلك نابعاً من ما تسلل في نفوسهم من عدم ثقة -للأسف- في اكتمال متطلبات الجهة المراد مراجعتها، وكذلك طريقة تعامل بعض المسؤولين فيها، وإن كان ذلك حقيقة لا يعد مبرراً للجوء إلى الواسطة إلاّ أنها واقع نعيشه رغم تحفظنا الشديد عليه، مضيفاً أن الكيل بمكيالين للمراجعين يعد مخالفة صريحة لواجبات الوظيفة وتقصير من الموظف، والقانون كفل للمراجع حق مقاضاة هذا النوع من الموظفين الذين يتقاعسون عن أداء واجبهم الوظيفي بالشكل الصحيح، ولجوء الموظف لذلك قد يكون نابعاً عن عدم مبالاة أو جهل بالجزاء المترتب على ذلك، أو لتحقيق أهداف شخصية خاصة بعيدة عن المصلحة العامة، وفي هذا الجانب يجب تفعيل الأنظمة والتشدد في الجزاءات للحد من مثل هذا السلوك، مؤكداً على أن الواسطة لها تأثير على ترابط المجتمع حيث إن تفشي هذا النوع يفسد العمل المؤسسي ويشوه اللحمة الوطنية وعليه يفقد المراجع ثقته بالموظف وبالجهة التي ينتمي إليها، وهو ما ينتج عنه تفكك داخل المجتمع وإيجاد ممارسات اندثرت وتلاشت منذ سنوات، بل إن الاستمرار بالواسطة قد تكون محفزاً عند الآخرين غير الممارسين لها لاستخدامها من باب المعاملة بالمثل، مُشدداً على ضرورة القضاء على الواسطة وذلك بتفعيل التعاملات الإلكترونية والعمل بمبدأ الشفافية في بيان المعايير التي على ضوئها يتم إنهاء المعاملات، إلى جانب حرص الجهات نفسها على تفعيل نظام "تأديب الموظفين" من خلال تشكيل لجان متخصصة بذلك وتكثيف عمل الأجهزة الرقابية بالدولة للقضاء على الواسطة. انعدام الثقة وأوضح د.مشعل بن سليمان العنزي -أستاذ الإدارة والتخطيط الإستراتيجي المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- أن الكثير من الناس يطرقون باب الواسطة لأنهم يعلمون جيداً أنهم مستبعدون من الاختيار والتعيين والعدالة، مع أنهم قد يكونون الأكفاء والمؤهلين للشواغر المطروحة، ولاعتقادهم المسبق أن الاختيار سيكون لمن يحمل مع أوراقه توصية من فلان الذي له نفوذه وسمعته واسمه، مضيفاً أن المحسوبية والواسطة هما القاعدة لدى كثير من الناس، أما الكفاءة والعدالة هما الاستثناء، وهذا الفكر يوجد في المنظمات التي ينتشر فيها الفساد الإداري والمالي، مما يتسبب في فقدان الثقة تماماً بالعدالة الوظيفية، وقد يلجأ بعض المسؤولين إلى تعطيل مصالح المراجعين ويتغاضى عن حاملي التوصيات لوجود مصالح مشتركة وفساد إداري، مبيناً أنه لا يوجد أي ترابط أو تعاون بين أفراد المجتمع الذي تنتشر فيه المحسوبية والتي تحد من الطاقات البشرية وتضعف الفكر النزيه وأصول التعاون والعدالة، حيث أن الواسطة تؤدي إلى انعدام ثقة الفرد بنفسه وبقدراته، وقد تؤدي إلى الإحباط الذي قد يسيطر على من انتزعت حقوقهم، الأمر الذي سينسحب على استقرار المجتمع. تفعيل المؤسسية وأكدت د.هيفاء الدعلان -باحثة في ريادة الأعمال- على أنه أصبحت الواسطة أمراً مقبولاً في مجتمعنا،، حتى أصبح مفهومها ثقافة متأصلة لا نكاد ننجز عملاً أياً كان دون أن تخطر الواسطة ببالنا، مضيفةً أننا نرى في أبنائنا صفات تنامت مع سعة الرزق ورغد العيش كالاتكالية والتكاسل والتقاعس، وربما بسبب هذه الصفات ينزع شبابنا وبناتنا إلى طلب الواسطة كطريق مختصر للوصول إلى أحلامهم بديلاً عن الجد والمثابرة والصبر، مبينةً أن بعض المسؤولين يقومون بتجاوزات عدة في سبيل تحقيق مصالح أصحاب الواسطة لأسباب مختلفة، وعلى رأسها عدم كفاءة المسؤول نفسه للمنصب الذي يشغله، وهذا النوع لم ولن يقتنع بأهمية الكفاءة أصلاً، وسيكون المحفز الرئيس له في أداء عمله هو الاستثمار في بناء العلاقات وتحقيق مصالحه الشخصية، ذاكرةً أن تأثير الواسطة على ترابط المجتمع شديد التعقيد، فمجتمعنا يرى في الواسطة تجسيداً للعلاقات القوية والمترابطة فيه، مُشددةً على ضرورة القضاء على الواسطة، وذلك من خلال تفعيل المؤسسية والتقدير وفق الكفاءة والمعرفة والمؤهلات. تنافسية إيجابية وشدّدت د.هيفاء الدعلان على أهمية إصلاح النظام القضائي في المملكة، بحيث يخلو هو نفسه من الواسطة، وكذلك تجريمها واعتبارها استغلالاً مشيناً للصلاحيات يجب أن تشدد فيها العقوبات والتشهير لردع ضعاف النفوس من التمادي في هذا الأمر، ويلي ذلك إعادة لهيكلة المؤسسات الحكومية بحيث تلغى فيها المركزية البغيضة وتسند المسؤوليات كاملة لكل مسؤول أياً كان لتكون إجراءات الرقابة والمتابعة اللاحقة صحيحة ومستوفية للشروط، وليس كما يحصل الآن بأن يوضع المسؤول في موقع ثم يحرم من الأدوات التي تساعده في أداء دوره كالموازنات وصلاحيات التعيين والفصل وغيرها، ثم تتم محاسبته على التقصير، مؤكدةً على ضرورة تحقيق التنافسية الإيجابية في مؤسسات المجتمع والتي يعول عليها في الرفع بمستويات الأداء، ورفع قيمة الكوادر المدربة والمؤهلة واستقطابها، ووضع خطط تنمية الموارد البشرية بما يحقق إنجازات في بيئة تنافسية لا ترحم فإما أن تكون أهلاً للتحدي وإلاّ فإن الزمن لن يذكرك. رقيب ذاتي وقال د.بدر السحيمي -أكاديمي ومستشار تربوي-: إن هناك صورة ذهنية انغرست لدى الكثير منّا بأنه لا وصول لحاجتك أو الحصول على حقك المكتسب إلاّ بالواسطة؛ لأن هناك في كل دائرة حكومية أو منشأة عامة أو خاصة متنفذ يعمل على استغلال منصبه ومكانته استغلالاً سلبياً، لذا أصبح الأمر مزعجاً للعامة قبل الذهاب لأي مكان أول ما يفعله هو الاتصال بالأصدقاء: "ألو فلان تعرف أحد في هذا المكان؟"، مضيفاً أن تبادل المصالح أصبح من الأمور المتعارف عليها حتى على نطاق ومستوى الدول، مبيناً أن غياب الرقيب الذاتي واستشعار الأمانة أمر يملكه شخص في الألف، مُشدداً على ضرورة سن أنظمة وقوانين تجرم وتحرم الواسطة، وكذلك التشهير لمن يستغل منصبه أمر ضروري ورادع لمن أراد العبث وتقديم أحد مكان أحد أو تعطيل مصالح على حساب مصالح أخرى، لافتاً إلى أن الواسطة مازال الحراك ضد مكافحتها ضعيفاً، بل لم يخف ضررها على مستوى الفرد والجماعات في مجتمعنا، الأمر الذي يجعلنا لا نضمن ولا نثق في أي نتائج مسابقات وظيفية أو ما شابهها من أمور تكون المنافسات فيها واضحة. على المعرفة وأوضح د.فيصل العتيبي -أكاديمي وباحث في قضايا التنمية المستدامة- أن مبادرة الشخص للواسطة هي ناتجة من حداثة المجتمع على المدنية، حيث نحن مجتمع تعارف على التزكية والترشيح لعمليات كثيرة من بينها الاختيار للوظيفة أو المنصب أو الاختيار لمهمة معينة، مضيفاً أن الأسلوب السابق للتوظيف بحكم ضعف وسائل التواصل وعدم تطورها في ذلك الوقت منذ بدء المدنية والاختيار للوظيفة في عهد أرامكو وسابك والشركات التي بدأت معها عملية التوظيف في الحكومة، كانت وسيلة وطريقة التقديم يدوياً مبنياً على المعرفة، وكيف أذهب إلى فلان وغيره، وما إلى ذلك، فكان هذا من أكثر الأسباب التي جعلت الإنسان لا يجرب بنفسه، إضافةً إلى ما تعارف عليه المجتمع من أن التوظيف أو الاختيار للمنصب وغيره تبنى على هذه الطريقة، مبيناً أن هناك قلة من المسؤولين يلجأون إلى تعطيل مصالح المراجعين، والحمد لله أن هؤلاء ليسوا كثراً في مجتمعنا، وإن كانوا موجودين، مشيراً إلى أنه إذا أردنا أن نعرف الأسباب الحقيقية لذلك فالفساد وتبادل المصالح بين هؤلاء المسؤولين وآخرين في قطاعات أخرى، حيث تتطلب العملية هذا النوع من التعطيل لتمكين التوازن أو وضع وزن أو ثقل معين لهذا المسؤول في عيون الآخرين، وفي عيون المجتمع الذي حوله بأنه يستطيع أن يفعل كذا أو يمنع كذا. معايير الكفاءة وأشار د.العتيبي إلى أن هناك هدفاً لرفع أو زيادة وتضخيم المكانة الاجتماعية للمسؤول الذي يحرص على نفع الآخرين مقابل أن يكون هناك طرفاً آخر في جهات أخرى حتى يستطيع أن يبني مصالح مشتركة، وكذلك يسعى في هذا المجتمع أن يري مكانته الاجتماعية أمام القبيلة أو العائلة وأهميته في الدولة، مضيفاً أنه لابد من القضاء على الواسطة وتفعل المؤسسية، ولابد من معالجة هذا الأمر، وهذا لا يمكن أن نصل إليه إلاّ من خلال تطبيق معايير الكفاءة وتطبيق مقاييس كثيرة للاختيار، وحالياً نشهد في المملكة من خمس إلى عشر سنوات ماضية العديد من المعايير التي تبين الكفاءة وتفترضها بشكل ولو مبدئي، هناك القياس وكفاءة المعلمين واختبارات وظيفية في الشركات، وبدأنا ندخل مرحلة جديدة من التقييم والاختيار المبني على الكفاءة، وعلى معايير محددة واضحة، وبإذن الله أنها عادلة بين جميع أفراد المجتمع، ذاكراً أن الاختيار المبني على المعرفة الشخصية يؤثّر على العدالة لجميع شرائح وأفراد المجتمع، وبالتالي هذا الأمر يؤثّر حتماً على كفاءة الإنتاج، ولاشك أن هذا الأمر مرفوض كليةً، متمنياً أن تتطور الوسائل والأساليب والاختبارات والمعايير التي تحكم عملية الاختيار، حتى تتوزع العائد من هذه الوظائف، ومن هذه الأمور على كافة شرائح المجتمع، فيصبح متكافئاً في فرصه ويستطيع أن يوظف أبناءه في كل المجالات، بل ويستطيع أن يجد الوظيفة ابن الفقير وابن الغني. تكثيف عمل الأجهزة الرقابية يُقلل من اللجوء إلى الواسطة د.فيصل العتيبي د.فارس العصيمي د.بدر السحيمي د.مشعل العنزي Your browser does not support the video tag.