كان حلم الوظيفة يداعب أجفان الشاب مهند وهو في مرحلة الدراسة الجامعية حتى يستطيع تحقيق أحلامه في تكوين أسرة صغيرة ومساعدة والده المتقاعد في مصاريف إخوانه، وكذلك جمع مبلغ متواضع يساعده في توفير احتياجاته الضرورية إذا استدعت الحاجة لذلك، وبعد مرور عدة أشهر على تخرجه، التحق بوظيفة في دائرة حكومية كانت تحمل بعضاً من تلك الأحلام، لكنه كان يشعر بعدم الأمان الوظيفي لأسبابه الشخصية، لذلك كان يتابع بشكل يومي المواقع التي كانت تعرض فرصاً وظيفية من وقت لآخر. حال مهند هو حال معظم الموظفين الذين ينتظرون فرصاً أفضل رغم أنهم موظفون في الكثير من القطاعات، وفي كل مرة يجتمع فيها الشباب يكون عدم الشعور بالأمان الوظيفي هو هاجسهم الأول، ليبرز السؤال: لماذا يشعر الكثير من الموظفين بفقدان الأمان ويظل البعض متنقلاً بين أكثر من وظيفة في مشوار حياته العملية؟ وما هو دور الإدارات في تحقيق معادلة الأمان الوظيفي؟ زيادة الطمأنينة وقال د. متعب الشمري -خبير ومستشار دولي في تطوير المنظمات والموارد البشرية-: إن مفهوم الأمان الوظيفي هو من أهم ركائز النجاح في أية منظمة كانت، فلا توجد منظمة ناجحة ذات إنتاجية مرتفعة إلاّ وكان الأمان الوظيفي تحقق فيها، ويتمتع به جميع موظفيها، والعكس لا يأتي إلاّ بالعكس، إذ إن عدم تحقق الأمان الوظيفي وتدني درجته في المنظمة دائماً ما ينعكس على إنتاجية تلك المنظمة ونجاحها، حتى وإن كانت تضم كفاءات عالية ومتخصصة في مجال عملها، مضيفاً أن فكرة الأمان الوظيفي تقوم على رفع درجة الطمأنينة والأداء العالي والإخلاص في العمل لدى الموظف وعلى مستقبله الوظيفي، وإنهاء جميع صور القلق على ذلك المستقبل، مبيناً أنه عندما يتحقق الأمان الوظيفي فيعني بأن أُسس الكفاءة والنجاح للمنظمات وللموظفين قد تمت تقويتها، وهي الأُسس الأساسية لإنجاح أي منظمة وموظفيها عبر الاستمرارية والتطور والاستقرار والتميز، مشيراً إلى أن الدراسات الدولية أثبتت أنه ليس جميع الموظفين يعون أهمية هذا المفهوم، ناصحاً كل متقدم للوظيفة بأن يستطلع عن أهمية وجود الأمان والاستقرار الوظيفي ومعرفة حقوقهم القانونية ومعرفة حقوقهم المرتبطة بالعمل لدى المنظمة. وحول الأسباب التي تجعل الموظف يبحث عن فرص وظيفية تحقق له الأمان أوضح د.الشمري أن الأمان والاستقرار الوظيفي هما وجهان لعملة واحدة، وعندما نتحدث عنهما نجد أن الأمور تحتاج إلى توضيح، خاصةً أن الاستقرار الوظيفي لا يمكن أن يتحقق بدون مؤسسات ينظم علاقتها مع الموظفين أُسس ومعايير وممارسات عادلة ومنصفة، مضيفاً أن الأمان والاستقرار الوظيفي ليست عبارات تسويقية لغاية استقطاب الكفاءات، بل ممارسة يومية مدروسة تعطي الموظف حقوقه ولا تتنازل عن أي جزء من واجباته، مبيناً أن الإصلاح يبدأ بالنفوس قبل النصوص، فإصلاح النصوص قرار إداري من السهل أن يُتخذ، أما إصلاح النفوس فيعني قوة إرادة ونهجاً وأسلوب حياة احترافي من قبل أصحاب رؤوس الأموال ومجالس الإدارات والإدارات التنفيذية، ولا يمكن أن تستقر الأمور دون مراجعة حقيقية ودون الإيمان بحتمية التغيير نحو الأفضل. منظومة القيم وأكد د. الشمري أن الموظف في القطاع العام يشعر أنه سيأخذ حقه، وبالتالي يفقد روح الانتماء والعمل المخلص في بعض الأوقات، لكن في القطاع الخاص يحاول البعض إشعار الموظف أنه يعمل في إطار منظومة التملك، وبين هذا وذاك تضيع الحقوق ويبدأ الانهيار، ويشعر الموظف أن أمنه الوظيفي مهدد من صاحب العمل، وهذا الشعور بحد ذاته قاتل للإبداع والانتماء، مضيفاً أنه من الأسباب الكثيرة في عدم توافر الأمان الوظيفي ومضادة للاستقرار العملي عدم وجود رؤية وأهداف واضحة لإدارة المنظمة معتمدة على الأسس الاحترافية، كمثال عدم وجود آليات وسياسات واضحة في التطور المهني، وعدم خلق البيئة التنافسية ما بين الموظفين، وكذلك عدم انتهاج ممارسات وأساليب إدارية احترافية في إدارة أداء العاملين، إضافةً إلى اتخاذ القرارات التعسفية لعدد من الموظفين لخلق بيئة ترهيب وخوف، كمثال إصدار العقوبات المغلظة على أخطاء عملية محتملة كالخصم المبالغ فيه أو إنهاء الخدمات، مُشدداً على أهمية إعادة صياغة منظومة القيم والأخلاقيات العملية، بحيث يكون العمل مبنياً على احترافية مهنية، ويكون للموظف أو العامل حقوقه غير القابلة للتصرف. معايير علمية وذكر د. الشمري أن الذي يحقق الاستقرار والأمان الوظيفي هو العدالة والمساواة، مضيفاً أن تكافؤ الفرص بين الموظفين هي أساس الأمان والاستقرار، مبيناً أن الأمان الوظيفي يعني وجود أُسس لاختيار القيادات الإدارية والفنية، ووجود معايير علمية واحترافية مبنية على معايير تقويم أداء فعالة وعادلة، تجعل الكفاءة هي المعيار الرئيس للاختيار، مؤكداً على أنه عندما يكون هناك استقرار وأمان وظيفي ستجد الإبداع والتميز هما العنوان الأبرز للعمل. مشيراً إلى أنه من أجل أن تحقق الإدارات الأمان الوظيفي فإنه يجب أن تتوفر العناصر الأساسية لإنجاح أي منظمة لتحفيز الموظفين، وإنشاء بيئة عمل قوية من أهمها وجود رؤية وأهداف واضحة لإدارة المنظمة، معتمدة على الأُسس الاحترافية وتطوير العنصر البشري من خلال النقاط التالية: وجود آليات وسياسات واضحة في التطور المهني للمنظمة والموظفين، وكذلك انتهاج ممارسات وأساليب إدارية احترافية في إدارة أداء العاملين وأساليب العمل. مُشدداً على أن المسؤولية في ذلك تقع على مجالس الإدارات وأصحاب القرار والإدارات العليا والإدارات التنفيذية ومن ثم المديرين في المستوى المتوسط من المنظمة. وتوجه د. الشمري بحديثه إلى صنّاع القرار في المنظمات قائلاً: إن من أهم عناصر الإنتاجية والإخلاص في العمل هو الأمان الوظيفي والبيئة التحفيزية التنافسية للإنتاجية الأفضل، وبحسب الدراسات الدولية فعندما تستخدم الشركات الأمان الوظيفي للتهديد بدلاً من استخدام أسلوب التحفيز فإن ذلك يؤدي إلى نتائج عكسية؛ لأن الموظفين يفقدون شعورهم بالالتزام، ويمكن لهذا الأسلوب أن يدمر الثقة في مكان العمل، وأيضاً يدمر الشركات على المدى القصير، مبيناً أنه لأهمية الأمان الوظيفي في العالم الاقتصادي بدأت كبرى الشركات في العالم التنافس على إنشاء أفضل الأُسس والمعايير التي تحفز الموظفين وتقوي أمانهم، وتزيد من ارتباطهم بالشركات التي يعملون بها، وهذا الارتباط يقفز بالشركات إلى أعلى مستويات التنافس والنجاح والتميز، وكذلك استقطاب أفضل الكفاءات. مردود مالي وقال د. عبدالله المغلوث -عضو الجمعية السعودية للاقتصاد-: إن الأمان الوظيفي يمثل استقراراً للموظف الذي يبحث عن فرصة عمل دون أن يجد أي إزعاج أو تردد أو أذى أو قلق أو إساءة؛ لأن الموظف عندما يشعر بمضايقة من رؤسائه لا يجد أمناً وظيفياً أو استقراراً، مضيفاً أنه يوصف الاستقرار بالمردود المالي والتأمين المستقبلي والطبي، وكذلك مميزات تجعله أكثر وفاء وولاء لهذا العمل، مبيناً أن معظم الشباب الباحثين عن فرص عمل لا يرغبون في القطاع الخاص؛ لأنه قطاع منتج وكاشف ومراقب على الموظف، وتسجيل الأخطاء أول بأول، وبالتالي لا يرغبون في هذا النوع من الوظائف؛ لأنها تحرص على الإنتاجية العالية وتتابع الموظف، إضافةً إلى أن الموظف قد يُطرد أو يُفصل، وقد يُنقل إلى موقع آخر، أو يخضع لبعض القواعد التأديبية، لذلك يتجه الجميع للقطاع الحكومي؛ لأنه لن يتعرض لمضايقات، كذلك ينظر طالبو الوظائف للقطاع الحكومي على أنه الأكثر استقراراً، لكنه غير منتج، وليس هناك مميزات وخصوصيات تجعل الموظف أكثر إنتاجية وعطاء. علامة فارقة وأوضح د. المغلوث أن الأمان الوظيفي ضرورة يبحث عنها الموظف، لكن علينا أن نميز هل الأمان أن يحصل الموظف على راتب دون عطاء قوي؟ وهذا ما نجده في القطاع العام، أم أن يعمل في القطاع الخاص وبعطاء قوي لكن تحت عين المجهر؟ وهذا الذي لا يريده الموظف بشكل عام، مع التأكيد أن الأمان علامة فارقة يبحث الموظف عنها دائماً ولكن هناك فروقات بين القطاع الخاص والحكومي، مضيفاً أن الأمان الوظيفي ليس الحصول على راتب عال ومميزات عالية، فكثير ما نجد موظفين بعد مرور عام على تعينهم فصلوا رغم أن الوظيفة مميزة؛ لأنه يكون قد قدم ما عنده من عطاء ولم يعد لديه المزيد، ولكن العمل لدى قطاع يقدم المميزات والاحترام وكل ما يتعلق برفاهية الموظف مهم جداً، مبيناً أن الأمان الوظيفي يعني وجود أنظمة وإجراءات وأدوات تحمي الموظف من الفصل التعسفي أو إجراء غير نظامي أو ضياع حقوق له، وأن تدار الوظيفة بأنظمة وعمل مؤسسي حتى لا تستطيع جهة العمل فصل الموظف دون إجراءات نظامية وإنذارات وأدوات تمكن الموظف من أخذ حقه في حال تعرضه لأي ضرر. مشيراً إلى أن دور إدارة الموارد البشرية الاهتمام بالموظف وتحقيق الأمان النفسي له والعملي والمادي، وبمعنى أدق فإن صرف الراتب الشهري في موعده يعتبر أحد عوامل الأمان الوظيفي، لكن تراكم الراتب يدخله في نفق القلق والخوف على مستقبله. بيئة العمل التحفيزية تجعل الموظف أكثر إنتاجية نحتاج لإعادة صياغة العلاقة بين الموظف وجهة العمل