لم يصنع المخرج البريطاني مارتن ماكدوناه سوى ثلاثة أفلام طويلة، وفيلم قصير، ومع ذلك فقد خلق شكلاً سينمائياً خاصاً به يحمل مواصفات سردية مميزة، أهمها أن العوالم التي يقدمها في أفلامه عوالم مغلقة تسبح فيها الشخصيات وتؤثر في بعضها وتتأثر، ويكون كل حدث فيها، وكل دافع، وكل تصرف، مرتبطاً ببقية عناصر هذه العوالم ومتفاعلاً معها بطريقة مدهشة، تؤكد براعة ماكدوناه ككاتب سيناريو أولاً ثم تميزه كصانع أفلام متمكن. في فيلمه الأخير الذي رشح لسبع جوائز أوسكار «ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبينغ، ميزوري- Three Billboards Outside Ebbing, Missouri» تتألق هذه المواصفات السردية بوضوح. الحدث الذي يجري في قرية نائية وسط عالم محدود، تتحرك فيه ثلاث شخصيات رئيسية أولها لسيدة تمتلئ بالغضب بسبب عدم قدرة الشرطة على القبض على قاتل ابنتها، والشخصية الثانية لقائد الشرطة المصاب بالسرطان، والثالثة لشرطي عنصري. ورغم البساطة التي تبدو عليها الحبكة، حيث لا يقدم الفيلم سوى محاولات الأم الحزينة لإعادة قضية ابنتها إلى الواجهة من جديد، إلا أن النسيج الروائي الذي تسبح فيه هذه الحبكة، بتعقيداته الداخلية، يجعله من أهم الأفلام التي صنعت في السنوات الأخيرة، وأوضح إشارة للأسلوب الخاص الذي يميز سينما مارتن ماكدوناه. لا يخلو أي مشهد من مشاهد الفيلم من إحدى الشخصيات الثلاث الرئيسية، وهذا تحدٍ إبداعي يجعل مهمة كاتب السيناريو صعبة، كونه حصر مهمة دفع الحدث إلى الأمام في ما تفعله هذه الشخصيات الثلاث فقط، دون الحاجة لأي شخصية أخرى. كما أن الفيلم التزم بالإيقاع الهادئ لموسيقى المشهد الافتتاحي، فظهر من البداية وحتى النهاية منضبطاً بهذا الإيقاع، رغم ضجيج أحداثه، في تحدٍ إبداعي آخر يستعرض به ماكدوناه قدراته في صناعة الفيلم وفي «كيف» يقول الحكاية أكثر من الحكاية نفسها. في هذا العالم المغلق والمحدود بشخصياته وأحداثه وتفاعلاته، كل ما يجري لإحدى الشخصيات الثلاث هو سبب أو نتيجة لما قامت به الشخصيتان الأخريان، في تفاعل مستمر، يبدأ بتنافر هذه الشخصيات، وينتهي بتوافقها والتقاء مصائرها. وكل هذه التقلبات تجري في مساحة صغيرة وفي مواقع محدودة. ومكادوناه ملتزم بشكل مدهش بهذه الحدود الجغرافية للمكان، وأجبر الحدث على أن يسبح داخل هذه الحدود حصراً، وفي اللحظة التي احتاج الحدث فيها للخروج برفقة الأم الحزينة والشرطي العنصري إلى مكان آخر بعيد لتنفيذ انتقامهما الأخير، انتهى الفيلم. هكذا ببساطة. انتهى لأن التفصيل الجديد لا ينتمي لعالمه المغلق، ولأنه قال كل ما يريد قوله داخل هذا العالم ولا حاجة له كمخرج وككاتب سيناريو لرؤية شخصية جديدة في تفصيل إضافي لا يمنح شخصياته الرئيسية معنى جديداً. ورغم هذه الحدود المغلقة إلا أن سرد مارتن ماكدوناه لا يخلو من انعطافات مفاجئة قد تصل في بعض الأحيان إلى حد الصدمة، لكنها مع ذلك تظل ضمن السياق الطبيعي للحدث، وهذه سمة في جميع أفلامه بدءاً من فيلمه القصير الحائز على الأوسكار Six Shooter الذي ظهرت فيه شخصية وهي ترمي بنفسها خارج قطار على نحو مفاجئ، وفي فيلمه التالي الذي قدمه عام 2008 In Bruges الذي احتوى على انعطافات مثيرة رغم أن الحدث يجري في مدينة هادئة ويروي قصة قاتلين يعيشان لحظة انتظار. أما في فيلمه الثالث Seven Psychopaths فسيقتل شخصياته الرئيسية بشكل مباغت وبلا مقدمات، ودون أن يبدو ذلك مفتعلاً أو مبالغاً فيه، بل ضمن السياق الطبيعي لنمو الحدث. هذه المواصفات السردية هي الميزة الأهم لأفلام ماكدوناه وهي سبب التقدير النقدي الذي حصل عليه. عالم مغلق ينسجه ببراعةِ كاتب وحِرفيةِ مخرج، فتكون النتيجة حكاية مكتملة الأسباب والنتائج، بموسيقى رائعة، وأداءات ممتازة، وحوارات ذكية ولاذعة، وانقلابات مثيرة، ولقطات مميزة بعضها جميل في ذاته وبعضها الآخر يُمثّل تحدياً إخراجياً مثل اللقطة الطويلة التي ظهرت في فيلمه الأخير والتي خرج فيها الشرطي العنصري وهو غاضب باتجاه مكتب الشركة الإعلانية. مارتن ماكدوناه فرانسس ماكدورماند وسام روكويل فازا بالأوسكار عن دوريهما في الفيلم Your browser does not support the video tag.