في نهاية الأمر، لم يفز فيلم «شكل الماء» للمخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو بسوى 4 جوائز خلال الدورة الأخيرة لتوزيع الأكاديمية الأميركية أوسكاراتها لأفلام العام 2017. صحيح أن الرقم لا بأس به بخاصة أن أوسكارات الفيلم تعتبر من الجوائز ذات الفئات المميزة: أفضل فيلم، أفضل مخرج، أفضل ديكور وأفضل موسيقى. غير أن الرقم يبدو ضئيلاً بالمقارنة بما كان متوقعاً. فالفيلم كان قد حصد ثلاثة عشر ترشيحاً، ما يجعله واحداً من أكثر الأفلام حصولاً على الترشيحات في تاريخ الأوسكار الحديث. غير أن ما يخفف من وطأة هذه «الخيبة» العددية هو أن فيلم ديل تورو كان يجابه ما لا يقل عن نصف دزينة من أفلام مميزة كان كل منها جديراً بأوسكارات عدة. فمن «أكثر الساعات عتمة» الى «القطبة الخفية» مروراً ب «دانكرك» و «ذا بوست» و «ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبنغ ميسوري» و «إخرج من هنا» و «ادعني باسمك» وصولاً الى «ليدي بيرد»، حفلت الترشيحات الأوسكارية هذه المرة بأعمال كبيرة، ولكن ليس كبيرة بمعنى أنها إنتاجات ضخمة، حتى وإن كانت الضخامة تميّز بعضها («دانكرك» و «أكثر الساعات عتمة» والاثنان يعودان بنا الى أيام الحرب العالمية الثانية). فالأفلام التي ملأت الدنيا وشغلت العالم خلال الأسابيع الفائتة تتميز في معظمها بانتمائها الى سينما فنية واجتماعية حقيقية تحاول، ودائماً من خلال لغات سينمائية حديثة وما بعد حديثة، بل حتى كلاسيكية، أن تمتع المتفرج فيما هي، ولعل هذا أهم ما في الأمر، توصل اليه رسائل سياسية واجتماعية تضرب على وتر حساسيات تتماشى مع العصر وقضاياه الكبيرة. تلخيص لقضايا كثيرة ولعل اللافت حقاً في هذا كله، هو أن أهل السينما الأميركية، وهم عادة ألوف من مهنيين ينتمون الى عالم الصناعة والإبداع السينمائيين في أميركا إضافة الى بضعة أجانب يعملون في سينماها أو حتى في سينمات أنغلو- ساكسونية أخرى، عرفوا كيف يختارون للجائزتين الأسمى، أوسكاري أفضل فيلم وأفضل مخرج، الفيلم الذي يجمع معظم تلك الرسائل والقضايا في بوتقة واحدة ناهيك بكونه يصل الى هدفه من خلال لغة سينمائية عرفت جيداً كيف تمزج الخيال بالواقع والمأساة بالكوميديا والحياة اليومية بالحس السوريالي. فإذا أضفنا الى هذا كله كون مخرج الفيلم مكسيكياً تتنطح هوليوود الى تكريمه على هذا الشكل هو الذي يكاد يكون في حضوره كناية عن موقف يبدو على الضد من «جدار الفصل العنصري» الذي يريد الرئيس دونالد ترامب بناءه بين الولاياتالمتحدة والمكسيك، تحديداً للحيلولة دون «تسلل» طالبي العمل المكسيكيين الى الفردوس الأميركي، سنفهم الدلالة المطلقة لهذا الفوز الأوسكاري التاريخي! لكن فوز ديل تورو وفيلمه لم يكن، على الأرجح، العنصر الوحيد الذي قد يكون من شأنه أن أقضّ مضاجع ساكن البيت الأبيض. ففي الفيلم نفسه الكثير مما يمكنه أن يساهم في ذلك: «شكل الماء» فيلم يتعاطف مع المرأة والمهمشين والمعوقين والمثليين... مع كل أولئك الذين لا يمكن لل «الصواب السياسي» أن يرضى عنهم، وبالتالي كل أولئك الذين يعتبرون شوكة في خاصرة أميركا العميقة، تلك التي أمنت للرئيس الأميركي الحالي فوزاً أذهل العالم... الأدهى من هذا أن «شكل الماء» يتحدث عن ذلك كله ويفعله عبر سينما شعبية لطيفة حاذقة، وكأن أصحاب القضايا في السينما أدركوا من خلاله أخيراً، أن تحقيق فيلم مناضل لا يتعيّن أن يرتبط بالملل والقبضات المرفوعة ولغة الخمسينات والستينات الخشبية. من هنا يمكننا أن نعلن «شكل الماء» فيلماً مناضلاً معاصراً سينمائياً حقاً لا يتنافى الجمال فيه مع العمق. المرأة وقضيتها ولعل هذا ما يمكننا أن نقوله عن الفيلم الآخر الذي حقق فوزاً في الأوسكارات، ولو بحصوله على جائزتي تمثيل، الأولى لأفضل ممثلة، فرنسيس ماكدورمند، والثانية لأفضل ممثل مساند، سام روكويل. ونعني بهذا فيلم «ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبنغ ميسوري» وهو فيلم لا يقل قوة في قضيته وسينمائيته ومشاكسته على «الصوابية السياسية» عن فيلم ديل تورو. بل ربما يفوقه في مجال تنطّح مخرجه وكاتبه مارتن ماكدوناه، للتعمق في قضية التحرش والاغتصاب التي تعتبر من أكثر القضايا إلحاحاً في عالم اليوم، بل حتى في هوليوود اليوم، ما يجعله فيلماً عن المرأة بامتياز بخاصة أنه أعطى ماكدورمند واحداً من أقوى أدوارها وأتاح لها أوسكاراً ثانية بعد تلك التي نالتها عن «فارغو» قبل عقود. ففي «ثلاث لوحات...» لدينا تلك المرأة التي بدلاً من الاستكانة لاغتصاب ابنتها ومقتلها أمام عجز القضاء، تمارس محاكمة السلطات والمرتكبين بنفسها بعد أن تستأجر ثلاث لوحات إعلانية منشورة خارج بلدتها مذكرة الناس محسّسة إياهم بما حدث، في لعبة استفزاز تقول الكثير عن فعل المقاومة النسائية التي باتت السبيل الوحيد في مجتمعات اليوم لتحقيق الحق! هذه الرسائل مهما يكن، لا شك في أن في إمكاننا متابعة الرسائل السياسية المباشرة، وهي يمكنها أن تكون في الوقت نفسه رسائل اجتماعية معظمها يشاكس على بلادة هذه الأزمنة، وذلك إما في أعمال تتعمق في «فضح» ما لا يزال قائماً من تمييز عنصري (فيلم «اخرج من هنا» الذي سجل الأوسكار التي نالها كاتب السيناريو له، جوردان بيل، أول فوز تاريخي يحققه كاتب أسود في هذه الفئة)، والمثلية الجنسية (معبراً عنها في فيلم «ادعني باسمي» الذي نال المخرج الكبير المخضرم جيمس آيفوري عنه أوسكار أفضل سيناريو مقتبس فكان عميد الفائزين بالتأكيد)، ومن جديد قضية المرأة (لافت في هذا السياق ذهاب جائزة أفضل فيلم بلغة أجنبية الى الفيلم الشيلي القوي «إمرأة رائعة» الذي كان ينافس على الجائزة أفلاماً سينمائية قوية بدورها من بينها اللبناني «ملف القضية 23» للبناني زياد دويري، والسويدي الرائع «المربع» والروسي الأكثر روعة «بلا حب»....). أما التاريخ فقد كانت له بدوره حصته من الجوائز، ولكن كذلك حصته من الأبعاد السياسية الخفية أو المباشرة. ونبدأ طبعاً بعمل كريستوفر نولان الكبير، والضخم بالمعنى الإنتاجي، «دانكرك» الذي حلّ ثانياً من ناحية عدد الجوائز، وإن لم يحلّ في مكانة متقدمة من ناحية أهمية هذه الأخيرة. فصحيح أن هذا الفيلم الذي يعود الى الحرب العالمية الثانية والكارثة العسكرية التي أحاقت بالإنزال الإنكليزي الأول هناك - ما أتاح للمخرج أن يحذو حذو «إنقاذ المجند رايان» لستيفن سبيلبرغ في فضح آلية الحرب، كل حرب ووحشيتها بل حتى عبثيتها، فاز بثلاث جوائز، لكنها لم تتوج سوى جانبه التقني: توليف وتركيب الصوت، والتوليف البصري، لا أكثر ولا أقل. وفي المقابل، كانت جائزة أفضل ممثل من نصيب بطل الفيلم الآخر الذي يتناول الحرب العالمية الثانية وقسوتها منظوراً اليها من لندن هذه المرة من خلال «الساعات الأكثر عتمة» التي عاشها ونستون تشرشل وهو يتخذ قراره على الضد من ساسة بلده لدخول الحرب ضد النازية وتخليص العالم من شرورها. ونعرف الآن أن هذا «البايوبيك» - فيلم السيرة الشخصية، فاز تماماً بما كان متوقعاً له منذ شهور، أي بجائزة أفضل ممثل للرائع غاري أولدمان الذي أدى دور السير ونستون تشرشل بشكل نال إجماعاً ظل قائماً حتى اللحظات الأخيرة، ولكن مع لحظات من الشك اعترت أولئك الذين شاهدوا في تلك الأثناء الإداء المدهش، هو الآخر، الذي قدمه دانيال داي لويس في تحفة بول توماس أندرسون الجديدة «القطبة الخفية» الذي شكّل صدمة حقيقية عدم فوزه بأكثر من جائزة واحدة (هي جائزة الملابس التي أتت طبيعية بشكل مدهش بالنظر الى ان الفيلم نفسه يحكي قصة مصمم أزياء أميركي من سنوات الخمسين). فالحقيقة أن «القطبة الخفية» ظل حتى اللحظات الأخيرة في حفل الأوسكار العمل المنافس بشكل رئيسي للفيلمين الكبيرين: «شكل الماء» على أفضل فيلم كما على أفضل مخرج، و «الساعات الأكثر عتمة» على جائزة أفضل ممثل. لكنه لم ينل سوى تلك الجائزة التي بدت، على أي حال، على قياسه. فكان عليه أن يكتفي بها، كما كان على دانيال داي لويس أن يقف وسط الصالة مبتسماً بكل رضى ليصفق أكثر من أي واحد آخر من الحضور لفوز «منافسه» و «مواطنه» وشريكه في شكسبيريته الإنكليزية البديعة، غاري أولدمان وهو يعتلي المسرح وقد تخلى تماماً عن ملامح تشرشل، الشخصية التي يلعبها في الفيلم، كما عن وزن هذا الأخير! القبضات المرفوعة دائماً وأبداً كانت، إذاً، تلكم هي الجوائز الرئيسة في واحدة من أكثر دورات الأوسكار قوة، منذ سنوات طويلة، دورة شهدت تنافساً جدياً وقوياً وغير مؤكد بين أفلام لا بد من التأكيد مرة أخرى أنها في معظمها لم تكن من النوع الجماهيري الذي يمكن أن يخطر في البال حين يُذكر اسم هوليوود أو حتى تُذكر السينما الأميركية بشكل عام. ومع هذا لم نعدم، في بعض الصحافة العربية «المناضلة» بخاصة، أقلاماً يبدو واضحاً أنها لم ولا تفهم شيئاً مما يحدث في الثقافة الأميركية وفي هوليوود خصوصاً، فراحت تتحدث عن الأوسكارات بلغة الستينات الخشبية، وكأن السيد دالاس أو السيد كيسنجر أو نيكسون هم من يصنعون السينما الأميركية التي لو قام أشاوس الكتاب العرب من قبورهم لراحوا يبحثون عن المؤامرة الصهيونية في خلفية كل ما يحدث!!