إن الوقف في سبيل الله شعيرة عظيمة من شعائر الدين، وهو داخل في عموم أبواب البذل والإحسان والتبرع، إلا أن للوقف أحكامُه الفقهية الخاصة به، وله خصوصية عن غيره من سائر عقود التبرعات، بل يكاد يكون أعظمها أجراً وأكثرها نفعاً وأطولها أمداً، ويعرّفه العلماء بأنه: حبس الأصل وتسبيل الثمرة، والمقصود منه: أن يتبرع المسلم بجزء من ماله المثمر، فلا يبيع هذا المتبرَّع به ولا يرثه أهله من بعده، بل يبقى في سبيل الله، ويستفاد من ريعه وغلّته في وجوه البر والخير والإحسان. ومن أشهر الأدلة على مشروعية الوقف ما رواه الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له». قال الإمام النووي -رحمه الله- في معنى الحديث: إن عمل الميت ينقطع بعد موته، وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة، لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلّفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف. وفي هذا الحديث الشريف بيان فضل العلم والحثّ على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع. إن التعليم في عصور الإسلام الأولى كان يقوم على الوقف، وذلك عبر إنشاء المدارس وحلق العلم والكتاتيب والمكتبات - التي كانت تسمى خزانات العلم - كما كان للوقف دوره البارز في القيام بواجب العلماء وسدّ احتياجاتهم، وبالجملة فللوقف أثره البالغ في تحقيق النهضة العلمية التي قامت في التاريخ الإسلامي على مرّ القرون الماضية. لقد ساهمت الأموال الوقفية في تنمية التعليم والمؤسسات التعليمية سواء في داخل المساجد أو في المدارس المنفصلة، إذ رعت الأموال الوقفية عملية التنمية من مرحلة الطفولة حتى المراحل الدراسية العليا المتخصصة. ويمثل الوقف نظاماً نموذجياً يوفر الاستقرار المالي للمؤسسات التعليمية، حيث إن معظم المشروعات التي تنشأ بمساعدة أو دعم الأوقاف تستمر في أداء رسالتها ودورها دون توقف، بعكس المؤسسات التي تنشأ دون وجود وقف مساند، حيث تتعرض للتوقف أو التعطل في أغلب الأحيان، ومن هنا يمكن الاستدلال على الدور التنموي الواضح للوقف، والمتمثل في حفظ وصيانة تلك المؤسسات من الهدر والضياع والتعطيل. ولا شك أن لهذه المدارس الوقفية دوراً واضحاً في نشر العلم، ورفع مستوى المعرفة بين أفراد المجتمع المسلم، حيث أصبحت محاضن لتلقي العلم والتدارس والالتقاء بأهل العلم والنهل منهم ونقل العلم عنهم. ويُعدّ الوقف المصدر التمويلي الرئيس في دعم المشروعات التعليمية والثقافية في المجتمع العربي والإسلامي قديماً، ولا زال هذا الأمر سارياً في عصرنا الحاضر بصور مختلفة وبتفاوت واضح من مكان إلى آخر في شتى بقاع الديار الإسلامية، نظراً للزخم الهائل الذي ورثته الأمة من سالفها الماضي العريق. والمأمول من الجهات المعنية بالتعليم كالوزارة والجامعات وعموم المدارس والمعاهد جعل الوقف من أولى اهتماماتها، وسنّ الأنظمة والآليات التي تسهّل التمكين وفتح المجال للإفادة من هذا المصدر الثمين. Your browser does not support the video tag.