في زمنٍ مضى وأكل عليه الدهر وشرب، كان الشعر ديوان العرب والمدونة الرئيسية لحفظ الأحداث والتاريخ ، والجسر المسترسل من العلم والمواثيق والحكم بين الأجيال المتعاقبة، وهو شاهد العصور والحق الصادح، حين يكون الحدث وشخوصه قد باتوا من القرون التي خلت وانعدم منها الشهود. ولم يكن الشعر مجرد قول منظوم بالوزن والقافية، تعاضده التراكيب اللغوية والصيغ البلاغية، التي تعبر بأنصاف المقاصد إلى الذهنية العربية فتشكل فيها محاسن الألفاظ ودلائل الإعجاز بالإخفاء والإظهار مع ترك المعنى على غارب الذكاء لمن يبصر بقلبه وعقله، بل إنه تجاوز إلى ما هو أبعد من ذلك، واصلاً إلى حد اغتراف الثمرات من أقداح العقول التي لطالما قدمت الاستقراء لمستقبل مازال في طيات القدر، وغياهب المجهول الذي لا تستشرف عنه النبوءات التي أجراها الله على ألسنتهم، وأشعلها بقلق الجهد في أصابعهم، التي أمطرت على الأوراق بالمداد من الدواة، ولنا في شعر المتنبي وأصحاب المعلقات خير مثال. لم يكن الشعر من أجناس الأدب في جزيرة العرب، بل كان هو النوع السائد في المشهد الأدبي آنذاك، والجنس الرائج الذي ينسف كل ما سواه من أجناس الأدب. لقد كان علماً يتناقله ناشئة القوم ويحفظونه في صدورهم، ويشيعونه بين القوم. وظل الشعر هو الديوان الذي حفظ مآثر العرب، ورموزهم وآثارهم على امتداد زمني طويل من التاريخ. ثم جاءت الرواية بأبعادها الفنية المتفاوتة بين الكلاسيكية والحديثة وما دار بينهما من صراع نقدي أدبي لتصبح هي سيدة المشهد الأدبي في العالم العربي عامة ولدى الأدباء السعوديين خاصة، فصارت هي الفن الأدبي المختص بطرح القضايا الشائكة، وترسيخ أحداث المرحلة، والمشاركة في وصف البناء الاجتماعي، حتى أن بعض الروايات السعودية قد نافست الروايات العالمية من خلال تقديم فكر فلسفي قادر على الوصف والتحليل والتنظير، ومشاغبة الأفكار، ونكش المشكلات بشفافية مطلقة، حتى صارت الرواية السعودية مطمعاً لدور النشر في الداخل والخارج، واحتل الروائي السعودي مكانة كبرى في الأوساط الأدبية والثقافية بعدما أثبت قدرته على إزاحة الشعر وزخمه ليتربع وحيداً في الصورة، ويوحي إلى الذائقة بأن الشعراء قد كبروا وأن القصائد قد ترهلت. ولست هنا بصدد مناقشة تاريخ الظهور والاندثار ومراحل التأسيس والنشأة، ولكن ما أردت قوله هو أن الأدباء من شعراء وكُتاب كانوا فيما سبق لا يألون جهداً في سبيل الكتابة وتقديم ما يمكن أن يليق بذهنية القارئ، ويرتقي لذائقته، فقد كان الشعر والشعراء يضمخون العقلية بالمعاني الجزيلة، والرواية والروائيون يشخصون الخلل في المجتمع من جميع أنحائه، لذلك كانت الكتب التي تحوي الشعر والرواية تعتبر كنوزاً تثري أي مكتبة. وفي الآونة الأخيرة ظهر لنا جنس أدبي جديد، جعلنا كقراء ندخل في إشكالية تصنيفها الأدبي، ونواجه الحيرة الكبرى في إدراجها ضمن مسائل النوع الأدبي. يعزى انتشار هذا النوع الغامض الباهت المجهول من الأدب، إلى شيوع ظاهرة الكتابة، وامتطاء الكثير من الباحثين عن وجاهة ثقافية صهوة الأدب، برغبة منهم في تلميع ذواتهم التي اشتهرت بلا محتوى مفيد، وردم فجوات النقص في شخصياتهم بالادعاء الأدبي، وترميم مكانتهم بثقافة وصلوا إليها بأسهل الطرق، حتى قلدهم الكثير من النشء الذين ساروا على نفس النهج. فيمكن لأي قارئ أن يكتشف الخلل في الأدب السعودي الحديث حين يجري جولة على رفوف المكتبات بحثاً عن الإصدارات الجديدة، فسوف يذهله الزخم، وتغريه غزارة الإنتاج، غير أن المحتوى ليس أكثر من مجرد (تغريدات) أطلقها الكاتب الحديث عبر موقع التواصل الاجتماعي تويتر، ثم جمعها بين دفتي كتاب، وقدمها لناشر (ربحي) من الدرجة الأولى، لا يفرق بين الغث والسمين من الأدب، ولا يعنيه ما معنى أن تصاب الساحة الأدبية في المملكة بانهيارات خطيرة في خطها الزمني. لقد أصبحت الكتابة أسهل من تناول كوب من الماء، ومن السهل جداً على أي فرد لا يملك أي أداة من أدوات الكتابة، أن يصبح أديباً يتصدر المشهد، وتفرد له المساحات، فلن يضنيه السهر وهو يعتصر عقله ليفرز حرفاً أنيقاً يليق بقارئ واعٍ، ولن يتعب وهو يرتاد مسافات البحث عن معلومة أو حدث أو إلهام. وكل ما عليه هو أن يُغرد ويترك مهمة جمع المحتوى على الناشر! وقد حدثني الكثير من القراء عن عروض تلقوها من مسؤولين في دور نشر مختلفة يعرضون عليهم أن تقوم الدار بجمع تغريداتهم وإصدارها ضمن كتاب، متناسين أن الأدب مسؤولية يجب أن يحافظ على جودته، الناشر الواعي قبل الأديب. وخلاصة الأدب السعودي الحديث، هي أن كل مغرد في تويتر قاب تغريدتين أو أدنى من ضخ نتاجه الفكري في كتاب. التغريدات» أقصر الطرق إلى التأليف Your browser does not support the video tag.