لكل بلد من بلدان العالم من شرقه إلى غربه تاريخه الذي يعتز به مهما كان مأساوياً، ولكل شعب حكاياته المطمورة في ثنايا ذلك التاريخ، ليأتي أدباؤه وفنانوه ليلتقطوا تلك الحكايات من ركام التاريخ ويعيدوا إنتاجها لشعوبهم. في ماليزيا، يعتبر الاحتلال اليابانيلماليزيا في أربعينيات القرن الماضي هو الحدث التاريخي الذي اجتذب الروائي الماليزي تان توان إنغ ليستثمره في رواياته: (هبة المطر) أولاً ومن ثم روايته الثانية (حديقة ضباب المساء) الحائزة على جائزة البوكر العالمية للرواية عام 2012م، ليصبح بذلك أول روائي ماليزي يفوز بالجائزة.. كان لنا معه هذا الحوار، فماذا قال؟ * كيف بدأت الكتابة؟ وكيف توازن بين عملك كمحامٍ وقانوني والكتابة الأدبية؟ -لم يقيّدني والداي، وكانا يسمحان لي بقراءة ما أريد، وهذا مما أدين به بالفضل لهما إلى الأبد. أثار العالم الأدبي فضولي وجعلني أقع في غرام اللغة. كنت أتساءل في كثير من الأحيان عندما كنت طفلاً عن ماهيّة الأشخاص الذين يقبعون في أغلفة الكتب، وأي نوع من الحياة يعيشون. كان هذا منذ وقت بعيد، قبل الإنترنت، لذا لم يكن الكتّاب المفضلون متاحين في (غوغل)، ولم يبدأ الناشرون كذلك بوضع صور المؤلفين على الأغلفة. حتى إنني كنت في تلك الأيام المبكرة، أطالع دائماً صفحة حقوق النشر محاولاً فهم معاني رموزها المستعصية. أما في مراهقتي المبكرة، فكنت كلما انتهيت من قراءة كتاب رديء، أود غالباً أن أقول لنفسي:»إنني أستطيع كتابة أفضل من هذا بكثير». بالطبع، كانت غطرسة شبابية كبيرة، وبطبيعة الحال كان كل ذلك مجرد أقوال لا أفعال. تان توان إنغ : الشخص بلا ذكريات.. شبح بلا هوية كنت على يقين دائمٍ أنني أودّ أن أصبح كاتباً، ولكن لأن والداي آسيويان عريقان، أرادا أن يكون لي وظيفة مرموقة. فكان عليّ أن أعمل بإحدى هذه المهن، ولأن مهارتي في الرياضيات كانت ضعيفة للغاية، أصبحت محاميّاً. كانت المحاماة خياراً جيّداً لأنها أتاحت لي التعامل مع اللغة. لقد كانت تدريباً قاسياً للكاتب أيضاً، فالمحامي يقوم بصياغة الوثائق، وعليه أن يكون شديد الحذر للفروقات الدقيقة بين الكلمات التي يستخدمها. وهذا هو ذات ما يفعله الكاتب: عليه أولاً أن يحب اللعب باللغة، لكي يطور من إحساسه بها. كان من الصعب الموازنة بين الكتابة والمحاماة، ذلك ببساطة يعني التخلي عن ساعات مشاهدة التلفاز، وعن الخروج مع الأصدقاء بعد العمل أو في إجازة نهاية الأسبوع. كان علي أن أذهب إلى مكتبي في السابعة صباحاً، وأكتب لمدة ساعة ونصف قبل أن أبدأ عملي، وغالباً ما أكون وحيداً في المكتب تلك الساعة. * كلا روايتيك تدوران حول فترة الاحتلال اليابانيلماليزيا. ما الذي جذبك إلى تلك الفترة بالتحديد؟ -الاحتلال الياباني بحد ذاته حدث تدميري هائل، فوددت الحديث عن أضخم ما حدث لنا منذ عهد الاستعمار. لكنه كان شكلاً مختلفاً للاستعمار، لقد كان احتلالاً غاشماً. فقط تخيّل أن تستيقظ في يوم من الأيام فيخبرك الناس أن عليك التحدث باليابانيّة اليوم، وكل اللافتات والإشارات من حولك تحمل خطاباً غريباً لا يمكنك فك طلاسمه. لقد كانت صدمة قاصمة وهائلة. وحتى اليوم مايزال الكثير من معاصريها يبدي اهتماماً ضئيلاً بها. يقولون :»إنها من الماضي». لكن مايزال ثمة الكثير من المناطق غير المستكشفة للكتابة عنها. أردت في الكتابة عن الاحتلال الياباني أن أمضي قدماً إلى المرحلة التالية. ماذا حدث بعد نهاية الحرب وعودة السلام؟ كيف أعاد الناس بناء حياتهم وكيف تعاملوا مع ما فقدوه؟ فحتى مع هزيمة اليابان وعودة السلطة الاستعمارية البريطانية، لم يكن ثمة مهلة في ماليزيا، فبعد ثلاث سنوات من نهايتها تم إلقاؤنا في التمرد الشيوعي. كانت حالة الطوارئ الماليزية تأسرني دائماً، لذا قررت أن أكتب روايتي الثانية عن تلك الفترة، التي لم تتم الكتابة عنها بشكل كاف. إنني مهتم باكتشاف كيف أثرت فترات الاضطراب العظيم وكيف غيّرت حياة الناس. إن اللحظات التي تشهد تغيراً ما في العالم تبرز أفضل وأسوأ ما في الناس. لقد انجذبت كقارئ وككاتب إلى الواقعية والشخصيات المضطربة. لا شيء في الحياة إمّا أسود وإمّا أبيض، وهذا ما يجعل الكتابة رائعة جداً وصعبة. كثيراً ما تساءلت عمّا سأفعله إذا ما واجهت بعض الخيارات الحتمية -كما حدث مع الشخصيات في كتبي- هل ستتوفر لدي الشجاعة والقوة لاتخاذ القرارات الصحيحة؟ وما هي القرارات الصحيحة؟ مازلت أبحث عن الجواب. إنني مفتون بالذاكرة، فالطريقة التي نتذكر بها وننقح ذكرياتنا ونراجعها تجعلنا بشراً. قال ميلان كونديرا:»ينفصل المرء عن الماضي (حتى عن الماضي الذي منذ ثوان معدودة) بواسطة القوتان اللتان تتجهان فوراً إلى العمل سويّاً: قوة النسيان (التي تمحو) وقوة الذاكرة (التي تنقّح)». هذه القوة المنقّحة للذاكرة، رؤية الناس للماضي بطرق مختلفة،سواء بتمجيده أو بالتحسّر عليه أو بكراهيته. الحنين هو مجرد طريقة واحدة يختار فيها المرء طريقة التعامل مع ذاكرته. في رواية (حديقة ضباب المساء)، يقول الراوي (يون لينغ):»ما الشخص دون ذكريات؟ إنه شبح بلا هوية، محصور بين عالمين، بلا ماض ولا مستقبل». * هل تعتقد أن ثمة أثر مستمر للاحتلال الياباني في ماليزيا؟ -لا أبداً على الإطلاق. نبدو أمة متسامحة. في الثمانينات، كان للحكومة سياسة «النظر إلى الشرق»، حيث طلب منا محاكاة اليابانيين في عاداتهم المهنيّة.، حيث كانت القوة الاقتصادية اليابانية في أوجّها. أخبرني بعض القراء الأستراليين والبريطانيين عن آبائهم أو أجدادهم الذين كانوا أسرى في الحرب، وكيف أنهم كانوا يرفضون تماماً أن يشتروا أو يستخدموا السيارات أو المنتجات اليابانية، إلا أنني لم أصادف أياً من هذه الحالات في ماليزيا. إنني على يقين من وجود مثل هذه الحالات، لكنني لم أسمع عنها. * ماذا يعني لك كونك أول ماليزي يفوز بجائزة أدبية كبيرة؟ * إنه شرف عظيم، وأنا سعيد من أجل والديّ، لأنهما كانا يعتقدان -مثل الكثير من الآباء الآسيويين- أن الكتابة ليست أكثر المهن حيوية. شعرا بقليل من الارتياح بعد أن ترشحت رواية (هبة المطر) إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر، ومن ثم أعتقد أن مخاوفهم قد انخفضت كثيراً عندما تم اختيار رواية (حديقة ضباب المساء) ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر وحصلت لاحقا ًعلى جائزة والتر سكوت. دعيت في العام الماضي لأكون واحداً من ضيوف شرف جائزة والتر سكوت للشباب. إنها مناسبة من أكثر الأمور التي أفتخر بها. ترتبط هذه الجائزة بجائزة والتر سكوت الأصلية. إنها فريدة من نوعها لأنها جائزة الكتابة الإبداعية الوحيدة في المملكة المتحدة المخصصة لتشجيع الشباب على كتابة الرواية التاريخية. * أخيراً، ما الذي تود قوله لقرائك العرب؟ * أشكرهم على الاقتطاع من وقتهم لقراءة هذه المقابلة، وآمل أن يستمروا في قراءة كتّاب آخرين من آسيا ومن بقية العالم.