كلما دخلنا غرفة الصمت تذكرنا كيف كان شكل ذلك الزمن الذي لم يكن له إلا لون واحد وطريقة واحدة، حينما كانت الجدة تظهر بخمارها الطويل وبطرحتها التي تخفي بها نصف وجهها لتروي لنا الحكايات والأساطير وخلف تلك الحكايات جدران قصيرة القامة حتى لا تفصلنا عن الحياة التي كنا نتركها بين طرقات الحواري تنتظر كلما دخلنا بيوتنا الصغيرة لنعود إلى رائحة الأم وصوت الأب وخربشات كتبت على الأرض التي لم تكن في تلك الفترة مبنية بالبلاط المرصوص.. كبرنا وكبرت معنا الحكايات وبقي موروثنا في قلوبنا يعيش على فتات الخبز وشيء من الماء الذي ينبع من الحب الخالد له، ولكنه لم يستطع أن يخرج من الإطار المسور حتى يلامس جيلاً خلف جيل. يغيب تراثنا الشعبي حتى إن زارنا لبعض الوقت في شيء من المناسبات، إلا أن مدننا المتحضرة لا تتلبس ذلك الموروث الشعبي المخزون في قلوبنا.. ولم تطغ تلك الشعبية على مؤسساتنا التعليمية أو حتى الثقافية إلا في حدود كتب التاريخ والشعر القديم، فحتى الشعر الشعبي والحكايات القديمة لا تدرس في تلك المؤسسات في الوقت الذي أنفقنا الكثير من الوقت في تعلم كتب نجيب محفوظ القادم من الموروث المصري، وأنفقنا الكثير من الجهد في حفظ نصوص من العصر الجاهلي ولكن حتى اليوم لا أحد يعرف الحكواتي أبو دينار خباز الشرقية أو أبو طبيلة حافي القدمين الذي أمضى أكثر من عشرين سنة في السير حافياً ليوقظ الناس.. والخالة صفية بائعة الآيس كريم والبحار ناصر والفتاة التي غرقت في العين, وغيرها من الحكايات والأساطير والتاريخ الطويل عن الأرض والبيوت ورائحة الأماكن وشكل الحياة والبحر.. فلماذا لم نعتنِ بتراثنا الشعبي وموروثنا الاجتماعي بشكل يجعل منه حياً في كل مكان؟ لماذا تتراجع المؤسسات الثقافية عن دعم فنوننا الشعبية؟ ولماذا حتى الآن لم يعرف الاطفال من الموروث الشعبي إلا القرقيعان الذي تهجن؟ وكلمة أمي العودة في المسرحيات المدرسية؟مشروع وطني يقول عبدالعزيز إسماعيل مدير عام الجمعية العربية للثقافة والفنون سابقاً ومدير عام المهرجان المسرحي بالدمام بأن التراث الشعبي لم يخدم بأي نسبة جيدة فنسبة خدمته ضئيلة جداً قياساً على حجمه الموجود لدينا، والسبب أن التراث الشعبي كما يحدث في في دول العالم المتقدمة يحتاج إلى مشروع وطني لأن ذلك المشروع الوطني لديه القدرة على تحمل التكلفة والنفس الطويل في العمل، كما أن المشروع الوطني الأقدر والأجدر لأنه سيتبنى المشروع باعتباره ثروة وطنية وليس مجرد محفوظ أو شفهي، بالإضافة الى أنه سيتم من خلال بنية ثقافية ليس فقط على حفظ التراث وتسجيله بشكل علمي منظم وحديث بل أيضا تقديمه للأجيال القادمة بطريقة حضارية مميزة. فلا بد من الاهتمام اللائق بحفظ وتدوين التراث الشعبي في الجزيرة العربية وفي المملكة بشكل خاص، وأضاف: يجب أن نفرق بين شيئين حفظ التراث وهذا يحتاج لمشروع لحفظه، وتقديم التراث وهنا يجب أن نعلم بأن جمعيات الثقافة والفنون من أكثر ما تهتم به هو تقديم التراث الشعبي. إلا أن إمكانات الجمعيات المادية لا تستطيع أن تقدم مسابقات كبرى في التراث أو تجمعه أو تحفظه، فهذا فوق طاقات الجمعية المادية ولكنه جزء من عمل جمعيات الثقافة والفنون. وفيما يتعلق بالكتابات الروائية ومدى خدمتها للتراث الشعبي فقال الإسماعيل بأن هناك مواضيع كثيرة لروايات خدمت التراث الشعبي فعلى مستوى الموضوع رواية عبده خال وعبدالله بن بخيت وعبدالله بوصالي وبدرية البشر وأميمة خميس، إلا أن الرواية كمنجز ومشروع ومن خلال الملاحظة على الشباب لا يوجد جهد كافٍ من البحث والدراسة والثقافة العامة لتقديم رواية لها قيمة كبيرة، فهناك كم كبير من الروايات إلا أنه في السنتين الأخيرتين بدأ هذا الكم يقل وأصبح هناك تركيز على الكيف ولم نجد من يكتب عن التراث الشعبي بشكل مكثف ودقيق بخلاف الكتابة التي قدمها سعد الصويان في التراث الشعبي وكذلك الجهد الخارق وغير العادي لعبدالكريم جهيمان لجمعه للحكاية الشعبية تحت عنوان أساطير شعبية في أكثر من جزء. «الأمم تراث» ويكاد يجزم الكاتب والقاص والروائي محمد المزيني بأن القصة والرواية والشعر قدمت الموروث الشعبي بشكل كبير ولذلك فإننا لا نستطيع أن نتلافى أحقية هذه الفنون في هذا التراث، فحتى الرواد الذين يروون حكايات قديمة هم لا يبتعدون كثيرًا عن عالم الرواية المؤسسة وفق قواعد روائية متينة أو حقيقية وكل هؤلاء ينهلون من التراث ما يستطيعون أن يقدمون به أو يؤرخون به تراثنا الشعبي والاجتماعي ولكن للأسف أن بعض الشعر الحديث أو الرواية الحديثة خرجت عن هذا الإطار وبدأت توثق لقضايا خاصة وهو بلاشك ضيع كثيرًا من هذا الموروث. فالموروث الشعبي ليس هو ذاك الذي يضرب في عمق التاريخ فقط، بل كل ما يتركه لنا الأجداد والآباء هو من الموروث الشعبي، ونستطيع أن نقول بأن حتى ما يحدث بيننا اليوم من أحداث وقضايا حالة الكتابة عنها إنما نؤرخها ونتركها للأجيال القادمة لتكون من الإرث التاريخي والاجتماعي. ولدينا قصص كثيرة جدًا استطعنا أن نستلهمها في الشعر، وفي القصة والرواية. ولذا نتمنى أن تقوم مؤسساتنا الإعلامية والثقافية بالبحث عن هذا الموروث واستعادته وتجسيده مره أخرى ليفهم البعض بأننا لسنا أمه هامشية تقتات على أحداثها اليومية وإنما نحن أمة ضاربة في التاريخ، ولها موروث اجتماعي مجيد تفاخر به الإمم. وعندما نقرأ بعض ما كتب في الأدب الغربي والشرقي نرى كيف فعل الصينيون والغربيون وحتى الروسيون بتاريخهم الاجتماعي واستطاعوا أن يقدموه بطرق متعددة. أما كيف نعيده وكيف نحتفي به؟ فهذا من شأن المؤسسات الثقافية والإعلامية، ومتى عملت بهذا الدور استطاعت أن تجد لها مكاناً أساسياً في الحلقة التثقيفية والتعليمية والتوعوية وحتى التربوية في المجتمع. فلو عرفت الأجيال كيف وماذا فعل الاجداد من خلال ما كتب عنهم وما تركوه لنا من تراث استلهمته تلك القصيدة أو الرواية لاستطاعوا أن يعيدوا واجهاتهم الحقيقية ويتربوا على قيم وتراث نصنع منها القدوة. في ظل هذه الأمواج الثقافية التي استطاعت بقوة التقنية أن تبدل وتجمد أفكارنا وقدرتنا على الإبداع، بشكل قد يقتل إبداعنا، في حياة تأخذ بالتصاعد بوتيرة سريعة إلى عالم المستقبل. والتأسيس يبدأ بتراثنا مثل تلك الأمم التي قدمت نفسها من خلال تراثها الشعبي. الذات المحلية ويقول الشاعر جاسم الصحيح: كل منجزاتنا الإبداعية سواء كانت روائية أو شعرية أو قصصية تحمل الذات المحلية التي تدعم قضايا المجتمع وتدعم الحالة الشعبية التي توجد فيها الفنون، فالكثير من المسرحيات أو الروايات تستخدم الأساطير الشعبية المحلية وتستخدمه في الشعر. فالتراث الشعبي لدينا يكون له توظيف في منجزاتنا الإبداعية بالطريقة التي تخدم هذا التراث وتستخرجه من دهاليزه وتقدمه للناس، ولذلك هناك تكاتف بين الأجناس الإبداعية في العمل من أجل إبراز التراث وهذا جزء من المسؤولية الثقافية الملقاة على عاتق المبدعين. وبلا شك إن المؤسسات الثقافية يجب أن تدعم هذه الأنشطة فيما يتعلق بالتراث الشعبي، خاصة أن لدينا الكثير من الشباب المهتمين بكتابة التراث والتنقيب عنه. علينا جميعاً ان نتكاتف من أجل إبراز تراثنا على سطح الواقع. ولا يمكن أن ننسى الكثير من الأسماء التي برزت في التراث الشعبي كرجل التاريخ الأديب جواد الرمضان، وأحمد البقشي وغيرهم في مناطق المملكة المختلفة. إلا أن هناك الكثير من مظاهر التراث الشعبي الذي لابد أن يهتم في إبرازه كالأمثال الشعبية وهي مهمة جدًا في عكس ثقافة التراث الشعبي كما فعل محمد الرمضان الذي جمع آلاف الأمثال الشعبية في 800 صفحة صدرت في كتاب. ولدينا أيضاً الفنون ومن الذين اشتهروا في الأحساء أيضاً عيسى الأحسائي الذي حرص على إبراز تراثها والمحافظة عليه. السماعيل: ثروة تحتاج لمشروع وطني الصحيح: الإرث الثقافي مسؤولية الجميع المزيني: تقدم الأمم مرهون بموروثها