لفحة هواء ساخنة أجبرته على فتح عينيه، لم تساعد على خفض حرارة جسده المحموم بل زادته سخونة. اللون الاصفر الغباري يحيط بالمكان من الأفق إلى الأفق، تلمس نظارته الشمسية في جيب الحزام القماشي فلم يجدها، لعلها سقطت حين وقع التدافع تحت الجسر، فرفع يده إلى جبينه لاتقاء الوهج ولقياس الحمى، لكن الرائحة النتنة أزكمت انفه. ما هذا؟!! .. يتذكر أنه غسل يديه بعد الغداء، الكبسة الشهية باللحم أغرته بأن يأكل بيديه، كما انه توضأ على الأقل مرتين .. إذاً هي علبة التونة التي أتت مع وجبة العشاء، وأكلها بأصابعه بعد أن استنفد قطعتي الخبز. وما أن تماست أصابعه مع عرق جبينه حتى بدأت الرائحة تتحلل وتتحول. هذا هو الحل حين لا يوجد الماء، عرق الجسد قادر على إزالة النتانة، والعرق هنا غزير على أية حال. القوم من حوله لا زالوا يتدافعون وهم واقفون، يتدافعون وهم جالسون، يتدافعون مع لا أحد. وارتفعت أصوات الشتائم والسباب حتى كونت طبقة طحلبية خضراء فوق الرؤوس، ما أن مرت قطرات المطر من خلالها حتى استحالت إلى شيء هلامي لا يروي ولا يطهر. قال رفيقه: "لقد نسيت صحفتي الجلدية في مقر السكن، إنها صحفة ثمينة جاءت من الحبشة من أيام النجاشي، لو كانت معنا لجمعنا بها قطرات المطر من خارج هذه السحابة الطحلبية"، قال هذا وغمز بعينه مبتسماً. ثم انصرف الرفيق الرقيق إلى قرب جدار ملون وجثا على ركبتيه مستقبلاً القبلة وأخذ يدعو بصوت هامس وصل إلى كل الأسماع: "اللهم ارزقنا نظافة اليد والقلب واللسان، قبل العرض ويوم العرض وبعد العرض". وصل الركب إلى مقر السكن وكان أول ما اكتشفوه هو اختفاء صحفة النجاشي، فازداد العطش. ابتسم الرفيق الرقيق مرة أخرى، ورفع يديه وقال ردد معي: "اللهم ارزقنا نظافة اليد والقلب واللسان، فوق الأرض، فوق الأرض وقبل العرض".