أخذت أفواه الدروب تنهش قدميه، وعيناه تمضغان التلال والشجيرات القاتمة.. وحمامة تفر من غصن شجرة، فيتناثر ريشها في الفضاء، وتحمله الريح، فينسج في عينيه سحابتين في هذا الفضاء القائظ المشمس... الحمامة وهي تجدف بجناحيها في ماء السراب، هي آخر كائن حي يرحل عن هذا المكان..!! أسند جسده إلى الشجرة وسط هذا الهجير المتوقد، تحاصره الحجارة البيضاء الملتهبة، تحت هذا الظل الشاحب كظل الغربال، أسند جذعه إلى جذع الشجرة وقال لنفسه في شبه مزاح وسخرية: تحت هذا الحريق الجهنمي: الا يمكن لهذه الشمس أن تتفيأ..؟ لمح بجانب عينيه ثقباً في الجذع، تخرج منه أسراب النمل، وهي تجثم على بقعة صمغ اعتصرها جذع الشجرة.. النمل متكوم حولها. كل يأخذ نصيبه ويرحل، والطابور الآخر يزحف ببطء، ينتظر دوره في وجبة الصمغ... شدَّه المشهد، وأنساه الحر، لولا رَشْحُ العَرَق الذي ينزلق من جبينه، ويتسرب الى عينيه، ويبتل منه فمه. خُيل إليه، بل تأكد من إن في جوف الشجرة هذه عالماً، وحياة غريبين نشطين، فهذه الوفود السوداء التي تأتي وتذهب، تهبط وتظهر، تذكّره بمحطات قطار الأنفاق في بلد غربي.. جذع الشجرة من الداخل عوالم من الأنفاق والسراديب، كل نملة لها مسكنها، ومستودع غذائها ومكان تفريخها... عجيبة مملكة النمل هذه في توازنها وتكافلها المعيشي و الاجتماعي.. كل يأخذ نصيبه، بلا تفرقة أو تمييز..!! حاول في لعبة قتل الملل، أن يحصي أعداد النمل الداخل لمدة خمس دقائق فتعب... وحاول في خمس دقائق أخرى أن يحصي عدد النمل الخارج فتعب أيضاً.. وأدرك أن كلتا الحركتين متقاربة.. استراح ذهنه لهذه التسلية فمدّ رجله.. لدغته حصاة بيضاء متوقدة كادت تشوي رأس إصبعة فكفها بسرة، فناشت ركبته عقب بندقيته التي أسندها إلى جذع الشجرة. تفرَّس في البندقية، وفي خشبها المنقوش اللماع.. و"سبطانتها " السوداء.. و خيطها الحريري. و لكن ما الفائدة و قد فرت الحمامة؟ وراح يسأل وهو ينظر الى أسراب النمل الأسود في حركة دائبة. لماذا جئت إلى هنا..؟ ما الداعي لقتل هذا الكائن الجميل..؟ وظل السؤال معلقاً بين عقله وعاطفته.. فالذبح والقتل تدمير ووحشيه.. وحب الصيد هواية تصل حد الغريزة.. وراح يفتش عن جواب، وراح الجواب يتلجلج بين حدته ومراوغاته... أصبح يبحث عن شيء يُسكت به أصوات الاسئلة.. أشرع عينيه نحو الفضاء.. نظر الى الجبل المقابل فلم ير شيئاً يستطيع أن يميزه إلا هيكل الجبل الباذخ المرصوص بالأحجار المتراكمة... قال في سره: يا لهذا الجبل الصامت، الوقور، كم من ملايين السنين مرت فوق هامته...؟ كم من الزوابع والامطار، والاعاصير، والسيول، والرياح، كم من الحوادث، كم من القوافل.. كم من الركبان مروا وأناخوا ثم رحلوا، كم من الامم حكمت ثم زالت... ظهرت ثم بادت..؟؟ و هو مطرق لحوادث الايام، مفكر في نوازلها، يبتسم للزمن الموغل في احقاب الأزل.. فلاح في ذهنه قول ابن خفاجة... وقورٌ على ظَهر الفلاةِ كأّنهُ طِوالَ الليالّي مفكرٌ في العواقبِ *** عاد بنظره إلى موقع قدمه.. لفت نظره عقب سيجارة!! مد يده إليه والتقطه... لم يلتقط في حياته سيجارة فضلاً عن عقب سيجارة.. ولكنه الهروب من السؤال الصاخب الحاد... قَرّب عَقب السيجارة فشّم رائحة قوية.. و كأنه قد قُذف به للتوّ.. التفت يميناً وشمالاً ولكن لا أثر لأحد.. لا شيء هنا إلا عَقب السيجارة... خطرت له فكرة.. «ماذا لو وضعت السيجارة بالقرب من كوم النمل على الصمغ؟! أو ماذا لو وضعتها في ثقب بيت النمل.. هل أكون بهذا سددت باب رزقه..» أليس الانسان قد يقطع رزق أخيه الانسان و يدّمره..؟ ورغماً عن سخف الفكرة فقد هم بالنهوض ليفعلها... *** أبطأت الحمامة... ربما إنها لن تعود... تحسس بطنه: هل أنا جائع؟ ضحك في سره!! ، متى كان الصيد بسبب الجوع؟ جذب ساقه واستعدَّ للنهوض، ورفع رأسه كعادته دائماً حينما يهم بالوقوف... شيء ما لمحه في أعلى الشجرة..!! لم يُعره انتباهاً كأي شيء، يعبر خاطفاً ببصره في بداية الامر، ولكنه أعاد البصر كَرَّة أخرى، كأنه يؤكد لنفسه أنه لم ير شيئاً. علّق بصره بشكل ثابت في جوف الشجرة.. شيء من الذهول جعل رأسه يدور..!! فظن أن الشمس الحارقة عملت عملها في رأسه. لا شك أن دماغه صار أكثر ليونه ولزوجه، حتى صارت تتراءى له أشياء غير حقيقية..!! قدمان عاريتان نحيلتان تتدليان من غصن الشجرة فوق رأسه، وفوقهما شيء كالخرقة على شكل جسد بشري... رأس يتهدل منه شعر فوق وجه أسحم شاحب متراخ، ميت لولا بريق عينين حادتين، فيهما خوف، وفيهما لون الموت اللامع. أدار جسده بعد أن استقام واقفاً وحدَّق جيداً، وأخذ يتأمل هذا الشبح الإنساني الغريب، حدَّثه فلم يجب... ناداه فتحرك قليلاً. طلب إليه النزول فغض عينيه.. كانت نظراته كلها استجداء.. كان خائفاً ينظر الى البندقية ويترقب. دعاه برفق ومدّ له يده في حنان.. وراح الجسد المتهالك ينساب في انهيار كما تنساب حية توشك على الموت.. وحين اقترب من الارض حمله على صدره. و أنزله. راح أنينه يتبعثر في الكون الفسيح.. كان قلبه يرجف... وعيناه تدمعان... ضمّه بكلتا يديه و قال ما بك؟ قال بصوت سَرَتْ فيه روح الموت: لا شيء و الله لا شيء...لم أفعل شيئاً... إلا أنني شتمت الفقر ... فطاردتني شرطة المدينة..!!