لم يكد يخفى ما صدر من حكومة دولة قطر من الأفعال المشينة، والتصرفات المسيئة، والتي عظم خطرها، واشتد ضررها، واستطار شررها، فاتَّقَدَتْ بها نيرانُ الفتن، واشتعل بها وقودُ المحن، فكان من اللازم والواجب قَطْعُ دابرِ ضُرِّه، وحَسْمُ مادةِ شرِّه، فالمصلحة تقتضي ذلك، والسياسة تتطلب كذلك، وما قامت به حكومتنا الرشيدة، ودولتنا المجيدة من قرارات، وما فعلته من تدابير هو عين العقل، وصميم الصواب، على حد قول القائل: وإن لم يكن إلَّا الأسنّة مركب ... فلا رأى للمضطرّ إلا ركوبها وقول المثل: مُكرهٌ أخاك لا بطل. ولي مع هذا الأمر وقفات: الوقفة الأولى: حريٌّ بالشعب السعودي أن يَسْعَدَ بمكانة المملكة ويغتبط من أعماقه بما تقوم به دولتنا المباركة -أبقاها الله غُرَّةً في جبهة الأمجاد، وأرسى مفاخرَها بأرسخ الأوتاد- من جهود عظيمة، ومبادرات كريمة بتأييد من الله تعالى، ثم بحكمةِ وحنكةِ حُكَّامها الأكارم، الأماجد الضراغم، أباة الدنية، وأسود الأنفَة والحمية، فقد بذلوا جهودهم المثمرة لبثِّ روح الأمن والطمأنينة في منطقة الخليج وغيرها من الدول، ومحاربة الإرهاب الذي أضحى كابوساً جاثماً على نفوس دول العالم أجمع، فمن أحق حقوقها المتأكدة، ومن آكَدِ صلاحياتها المتحتمة أن يكون لها موقفٌ حازمٌ تجاه كل من يمثل تهديداً مُحدقاً بأمنها، أو يُشكِّلُ خطراً مُحقَّقاً على استقرارها، وهذا من حقوقها المشروعة لسدِّ أبواب الشر، وإغلاق منافذ البغي. الوقفة الثانية: من الغني عن البرهان القول: إن بلادنا المباركة المملكة العربية السعودية قد عاملت جيرانها وأشقائها من دول مجلس التعاون الخليجي كما يصاحب الأخ إخوانه، وكما يعامل الجار الوفيُّ جيرانه، وجعلت الحكمة ورعاية المصلحة معياراً للتعاطي مع قضاياها، وتغاضت عن النزوات والرعونات التي شابت تصرفات حكومة دولة قطر أملاً من المملكة في أن تنتهز جارتُها المارقة هذه الفرصة فترعوي عن زيغها وانحرافها، وتستقيم على جادّة الصلاح بعد طلاحها، لكن: ما كلُّ ما يتمنى المرء يُدركه ... تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ فقد تفاقم الداء وصار عضالاً، واستعصى الدواء وكاد يكون محالاً، وظهر بما لا يدعو للشك والارتياب ما مارسته حكومة هذه الدولة العاقَّة من شذوذات غريبة، وتلونات عجيبة، أفرزت إساءات متنوعة، وتجاوزات متعددة، تجاه المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج، بل وتجاه الأمن العالمي والإقليمي، وهي بذلك قد ضربت بالمعاهدات عرض الحائط، وتنكرت للاتفاقات المبرمة تنكراً صارخاً، ونكثت بالعهود نكثاً لا يتوقع، وخانت الأمانة خيانة لا تُتَرَقَّب، وليس أشدَّ على النفس من أن تنهال الإساءةُ من قريب، وأن تتأكدَ الخيانةُ من صديق. وظُلمُ ذوي القُرْبى أشَدُّ مَضَاضَةً ... على المرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنّدِ الوقفة الثالثة: لا شك أن لقيادة المملكة من الفضل والجلالة ما يستغرب معه أن تتطاول عليها دولة كان اللائق بها أن تعترف لها بالفضل، وتسلم لها ما حباها الله من الصدارة، فإن لم تسمح نفسها بتوفيتها كامل حقها من التبجيل وحسن الصحبة، ومحاولة مقابلة بعض إحسانها بالإحسان، فلا أقل من كف أذى شُذَّاذ الآفاق الذين استضافتهم، وكَبْتِ سلاطة لسان الإعلاميين الذين استقطبتهم، وعدم إغراء الذئاب البشرية التي لم تكن تحلم بالتطاول على المملكة لولا أن جارتنا الغريبة الأطوار آوتها إلى أحضانها، وسدَّت جوعَتَها من ثمرات أفنانها، ثم أرسلتها مسعورةً على حكومةِ وشعبِ المملكة تقضم الأعراض قضماً، وتوسعنا سَبَّاً وشتماً، إن ما حصل لا يكاد يُصَدَّق، وما جرى لا يكاد يُسْتوعب. ولو اقتصر الأمر على ذلك لأمكن الانتصاف من الظالم وأخذ الحق منه بالوسائل النظامية المناسبة وهي متاحة بحمد الله، فَيَدُ المملكة ليست بالقصيرة، وإذا امتدت لأخذ حقها انطبق عليها قول القائل: السيف حديد، والساعد شديد، ومن السهل أن تقول بملء الفم: يا عمرُو إلاَّ تدَعْ شتمي ومنقصتي .... أضربْك حتى تقولَ الهامةُ أسقوني لكن الذي دفع الأمور إلى أن تتفاقم، وجعل آخر الدواء الكي، ما ثبت ثبوتاً بيِّناً من دعم دولة قطر لكل أعداء المملكة العربية السعودية بجميع أشكالهم وأنواعهم، سواءً كان هذا العدو دولاً ضالة حاقدة، أو مليشيات وتنظيمات إرهابية ناقمة، أو جماعات داخلية متمردة مارقة، أو أفراداً آبقين خالعين ربقة الأوطان، شاهرين سيوف الشر والعدوان، وكل واحد من هؤلاء لا يفوت فرصة ليريق دماً إلا انتهزها، ولا يهمُّه إلا أن يزعزع أمناً، أو يضرم فتنة، أو يحدث نكبة، ولو افترضنا أنها لم تتعامل ولم تتبنَّ إلا صنفاً من هؤلاء لكان لزاماً أن يُكْشَفَ عُوارُ سياستها، ويُفْضَحَ سوءُ معاملتها، وتُحمَّلَ تبعات نزغاتها، فكيف وقد كانت هذه الدولة الكهفَ الذي يتخفَّى فيه كل مفسد، والمنبَعَ الذي يَسْتَقِي منه كل مجرم؟. الوقفة الرابعة: إن من تمام العدل أن يُقصَرَ الذنب على فاعله، وأن لا يشمل الجُرْمُ إلا مرتكبه، فلا تلازم بين خطأ حكومة قطر وبين شعبها الذي لم يسلك سياسة الغدر، ولم ينهج مسلك الخيانة -ناهيك أن بيننا وبين هذا الشعب من الأواصر ما هو معروف- ولا يملك من أمره شيئاً في هذا، وإنما قيادة قطر هي التي اقترفت الذنب، وعكَّرت الصفو، ولم تترك فرصة للطعن في الظهر إلا انتهزتها، ولا حيلة للفتِّ في العضد إلا ارتكبتها، وغرَّها في ذلك -ومن عادة الجاهل أن يغتر- أن المملكة تتغاضى عن تصرفاتها حلماً وترفعاً، وورعاً وتنزهاً، ولما طفح الكيل، ولم يعد الإغضاء مجدياً جاهرت دولتنا المباركة المملكة العربية السعودية بالإجراءات التأديبية من غير مخادعة ولا مكايدة، ومن غير غدر ولا خيانة، فما كان من ديدن المملكة اللجوء إلى سوء المكر، ولا من شيمتها إظهار الولاء وإبطان العداء، فإن الغدر والخيانة مذمومان شرعاً مبغوضان فطرة وطبعاً، يقول الحق جل وعلا: (إن الله لا يهدي كيد الخائنين)، ومع كونهما ممنوعين ابتداءً فهما غير مطلوبين مجازاة لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تخن من خانك).