ضيق عينيه كما يفعل حينما ينظر إلى أمر يهمه، وقال موجهاً إلي نظرته النافذة: "أنت سلطان البازعي؟" قلت بارتباك: "نعم". قال: "من الغد تبدأ العمل معنا في الرياض". قلت: "سم طال عمرك". من فرط ارتباكي لهذه المواجهة السريعة مع الرجل العملاق لم أتمكن من الوقوف احتراماً له، ولم يترك لي الخيار للمناقشة لأنه أدار ظهره وخرج إلى الممر القصير يقف أمام مكاتب المحررين يمازح هذا ويوجه ذاك، ثم يدخل إلى مكتبه ليكتب زاويته الشهيرة "لقاء". شعرت أنني وقعت في مكيدة نسج حبائلها زميلي الراحل طلعت وفا رحمه الله، وتأكدت من ذلك حين التفت إليه فوجدته يبتسم ابتسامة المتآمر. ما حدث بعد ذلك كان تاريخاً، أسجله باعتزاز في مسيرتي المهنية بالعمل تحت القيادة الأبوية والتوجيه المحترف من المعلم تركي بن عبدالله السديري، سرعان ما أخذ بيدي كما فعل مع كثيرين قبلي وبعدي إلى معارج التقدم الصحفي، فبعد تخرجي من الجامعة كان قرار تعييني محرراً متفرغاً جاهزاً في ذهنه، ولم يأخذ منه سوى ورقة صغيرة كتبها وهو في الممر وأرسلها مع العامل إلى الإدارة في الدور العلوي، ولم تمر سنة أخرى حتى صدر قرار تعييني مع الزملاء د. خيرية السقاف، وسليمان العصيمي، وناصر القرعاوي مديرين للتحرير، بعد أن صعد الراحلان محمد أبا حسين ومحمد الجحلان إلى مرتبة نائب رئيس تحرير، في أكبر عملية تعيين مفاجئة شهدتها الصحافة السعودية في ذلك الحين. وبعد أشهر قليلة كان الراحل العزيز يخوض معركة أخرى -داخلية هذه المرة- لكي يضمن لكل قيادات التحرير وزملاء آخرين الدخول في عضوية مؤسسة اليمامة الصحفية، في سبق آخر يحققه أبو عبدالله يسجل باسمه في تاريخ الصحافة السعودية. لم يكن من الممكن أن تصقل قدراتي في الصحافة والإعلام، لو لم أكن أعمل مع مثل هذا الرجل، نمطه الإداري بسيط جداً، يعطي العاملين قدراً كبيراً من الثقة والصلاحيات ثم يحاسبهم بقوة وحزم حين الخلل. مع أبي عبدالله تعودت أن أكون مسؤولاً عن كامل إصدار الصحيفة بصلاحيات رئيس تحرير ليوم أو أكثر، ومعه تعودت أن أقود فريق العمل، ومعه تعودت أن أتحمل مسؤولية كتابة افتتاحية الصحيفة، ومعه تعودت أن أقابل القادة والزعماء، ومعه أيضاً تعودت أن يحسم شهران من مرتبي.. ثم في وقت لاحق أن أتلقى مكافأة ثلاثة أشهر، أو تذكرة سفر إلى مكان جديد مع مصاريف السفر، كل هذا يتم بورقة صغيرة تكتب في الممر أو باتصال هاتفي بسيط. أراد مرة أن يرشحني لمنصب رئيس تحرير إحدى المطبوعات لكني اعتذرت منه قائلاً إنني لست مستعداً بعد، وأن هذه المطبوعة لا تمثل لي طموحاً، فسألني: "ما هو طموحك؟"، قلت: "الرياض"، قال باسماً: "تخطط لانقلاب يا خبيث؟"، قلت: "مثلي يحتاج إلى سنوات من التحضير والتعلم حتى يملأ فراغاً يمكن أن تتركه"، والذي حدث بالطبع هو أنني تعبت من العمل الصحفي وتقاعدت منه، واستمر هو شامخاً يعلم أجيالاً أخرى. رحمك الله أيها المعلم، كنت مهيباً ونبيلاً في كل أحوالك، في التنافس مع الزملاء، في الخلاف معهم، في التصالح، وفي رعاية شؤونهم.. كنت قمة يصعب الوصول إليها ولا زالت هذه القمة مسجلة باسمك. برحيل تركي بن عبدالله السديري أشعر أن الصحافة السعودية فقدت كثيراً من هيبتها. * رئيس جمعية الثقافة والفنون