قد يكون أمرا غريبا أن يأتي التعقيب بعد خمسة وأربعين عاماً.. حول مسألة أدبية أثارت بعض النقاد في وقت تداولها نشرا وقراءة. إلا أن هذا ما فعله الأديب الكبير الأستاذ عبدالعزيز الربيعي، تعقيبا على ما نشر هنا في 14 ديسمبر 2015 بعنوان"عبدالعزيز الربيعي.. وسيرة جيل لم تكتب".. وإذ أشكر للأستاذ الكبير اهتمامه، لأقدر له مقاومة ظروفه الصحية ليقدم مداخلة اتسمت -كعادة القامات الأدبية - بأسلوب رصين أخاذ.. قد يكون أمرا غريبا أن يأتي التعقيب بعد خمسة وأربعين عاما.. حول مسألة أدبية أثارت بعض النقاد في وقت تداولها نشرا وقراءة. إلا أن هذا ما فعله الأديب الكبير الأستاذ عبدالعزيز الربيعي.. وهو يلقي الضوء على ظروف علاقته بالصافي النجفي وشاعره الأكبر أبي الطيب المتنبي.. كنت قد أشرت إلى ما نشرته مجلة "الأديب" اللبنانية في مايو 1970، للأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله الربيعي عن الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، تحت عنوان "أحمد الصافي النجفي متنبي هذا العصر"، وقد كان لتلك المقالة/الدراسة وقع خاص لا من حيث رفع مكانة الشاعر الصافي النجفي إلى منزلة أبي الطيب المتنبي، ولكن أيضاً على مستوى انتشارها وما أحدثته من صدى حينها في الوسط الأدبي. وقد أشرت أيضا إلى بعض ما كتبه الدكتور محمد رجب بيومي في "الأديب" في عدد يونيو 1973بعنوان "فتى المروءة"، حيث يقول (لكننا نقول للأستاذ عبدالعزيز يا أخي كيف جاز لك في أحاديثك أن تنكر مقارنة المتنبي بأبي العلاء وأبي تمام، والثلاثة قريب من قريب من قريب.. ثم تقول في حديثك عن النجفي إن شعره يقف بثقة أمام شعر أبي الطيب.. أنا لا أنكر أن الأستاذ أحمد الصافي النجفي شاعر كبير، وأنه فنان أصيل، وأن مقامه جهير في الشعر المعاصر! ولكني أنكر أن يقرنه عبدالعزيز بأبي الطيب ثم يرفض أن يجعل المتنبي مقارناً لأمثال أبي تمام وأبي العلاء والبحتري والشريف؟ أهي مروءة الأدب قد بسطت أريحيتها الواسعة على النجفي في ساعة صفاء حتى لفته مع المتنبي في دثار واحد..). ليأتي اليوم تعقيب الاستاذ عبدالعزيز الربيعي ليعيدنا للمشهد الاول.. فهو يقول: ( لا أجد مانعا من أقص هذه الواقعة عن الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي، فقد تعرفت به ودرست جانبا كبيرا من أدبه، ووقفت على ما كان يكابد من آلام نفسية، وشظف في العيش، وجهامة في الحياة.. وقد حاولت فيما حاولت أن أخفف عنه بعض ما يعاني. وكان أن اتجهت ذات مرة إلى مجلة الاديب البيروتية، ولي برئيس تحريرها الاستاذ "ألبير أديب" ود متصل.. وقد تطارحنا الأحاديث الأدبية كعهدنا دائما، وتطرق الحديث إلى الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي، وكنت قد فارقته منذ ساعتين، فتكلمت عنه، وكأن الحديث قد راق صاحب الاديب، فطلب مني أن أكتب مقالا أدبيا عنه، فاعتذرت لضيق الوقت، فقال ولماذا الاعتذار؟ إن ما قلته يكفي لحديث شائق، ونادى أحد المحررين بالمجلة، وطلب منه أن يدير معي حوارا عن الصافي، وأذكر ان الحديث امتد وتشعب كثيرا واستغرق وقتا ليس بالقليل.. فوجئت بأن الحوار تحول إلى مقال، وبدا كأني الذي كتبته هكذا، ولم يكن يهمني هذا لو التزم كاتبه بكل ما قلت دون تصرف.. ولكنه حرف الكلم عن موضعه فيما يختص بالمقارنة بين الشاعر النجفي وشاعر العربية الأكبر أبي الطيب المتنبي.. حيث جاء في المقال: يستحق الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي وبجدارة لقب متنبي عصره، فشعره يقف بثقة بالغة أمام شعر أبي الطيب المتنبي. والصافي يقول: يوحدنا في الروح دار ومهج ويجمعنا في الشعر فن وحُسد أتى متنبي الشعر والروض أجرد وجئت وروض الشعر منه مورد وأنا لم أقل في الحوار أن شعر الصافي النجفي يقف بثقة أمام شعر أبي الطيب المتنبي، ولا أوافق على بيته الثاني.. فالمتنبي لم يأت في عصر كان الشعر فيه أجرد، فقد كان لدى سيف الدولة في بلاطه أكثر من عشرين شاعرا كلهم مجيد، وكلهم خصم للمتنبي، وكان في حضرة الصاحب بن عباد أكثر من أربعين شاعرا.. وردوا حياضه واكتفوا بمدائحه حين رأوه يستشعر الفخر بالمديح.. كما كان مجلس ابن العميد غاصا بكبار الشعراء.. وحديث اولئك قد ضمه كتاب "يتيمة الدهر" للثعالبي.. فكيف يقول الصافي "أتى متنبي الشعر والروض أجرد". ولم استطع نفسيا أن ارد حينها على ماجاء بمجلة الاديب، لأن الصافي النجفي كان في أيامه الاخيرة يقاسي ضروب المرض، ويتألم لما يشعر به من جحود ونكران. وكيف أقول له في حالته تلك أنك شيء والمتنبي شيء آخر وهو يقول" يوحدنا في الروح دار ومهجر". وكنت أظن أن الأمر سيمضي في هدوء، ولكن صديقي الدكتور محمد رجب بيومي نشر مقالا عني في الأديب، ثم جمعه ضمن مقالات أخرى في كتاب "من أعلام العصر". ولم أشأ أن أعقب عليه بشيء، ثم تكرر القول من بعض الفضلاء ردا عليّ.. وأنا على اعتقادي في تفوق المتنبي على جميع شعراء العربية في القديم والحديث، وهو رأي يقول به كبار النقاد.. ولا أجد مانعا حتى لو طوت السنوات البعيدة هذه القضية أن أضع الأمر في نصابه بعد رحيل الأستاذين إلى رحمة الله.. وزوال الحساسية التي كنت أخشاها لو نشرت تعقيبا في مجلة الاديب حينها..) هكذا كتب الأستاذ الأديب عبدالعزيز الربيعي تعقيبا على ما نُشر في الرياض.. ولا ريب وهو العاشق الكبير للمتنبي الشاعر والحكيم، ولا يكاد يخلو حديثه في أي أمر من استشهادات من شعره تكشف تلك العبقرية التي لا زالت بعد أكثر من ألف عام مثارا للاعجاب والاهتمام.. أليس هو القائل: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرّاها ويختصم أبا الطيب، لم يكن نوما عابرا في طيف يوم من أيامك الحافلة بالمواجهات والتحديات.. فهاهم بعد أكثر من عشرة قرون على رحيك لازالوا يسهرون جرّاها ويختصمون..