باعتقادي، ولست بناقد ولا شاعر ولا حتى أديب، ربما متذوق وحسب، إن الشعر مازال ديوان العرب، برغم محاولات فنون أدبية أخرى كالرواية والنثر والمقالة منافسته، وكان ظني أن العرب وحدهم أسرى الكلمة الجميلة المجنحة، فإذا بهم جملة من أمم، إنما مختارة، تقع تحت سطوة الحرف، من يصدق، مثلا، أنه حتى الألمان، برغم جدية التعامل الألماني وخشونة اللغة الألمانية، أقله نطق مفرداتها، لديهم شعر جميل ترفع له القبعات احتراما كما كانت عمائم العرب تقفز عند كل بيت شعر جميل أو قصيدة عصماء. بيد أن الشعر موقف، لا أقصد لحظة انفعال الشاعر الإبداعية، إنما صدق موقفه من القول في أي من أغراض الشعر، أما القول إن أعذب الشعر أكذبه فأظنها نظرة مثالية، مبالغات الشاعر وتشبيهاته واستعاراته كلها لها أساس من الواقع ومن البيئة، ورحم الله ابن أبي ربيعة الذي بعد كل ما قال من شعر حسي مع حبيباته الكثيرات أقسم أنه لم يحل إزاره على حرام قط، قد يكون محقا وخياله المذنب فقط. أغلب ظني أن أعذب الشعر أصدقه، ذلك الملتزم بموقف قيمي أو مبدأ أخلاقي حتى في الغزل، وشعر ابن أبي ربيعة أو نزار القباني العاطفي وغيرهما ممن يسمون بشعراء المرأة برغم عذوبة بعضه، تعلم وأنت تقرأه أنه إبداع قدرة على التخيل وحسب. تخيلوا لو أن قيسا تزوج ليلى أو عنترة تزوج عبلة ما كنا سمعنا إبداعاتهما وغيرهما من المحبين، ذلك أنهم لم يتخلوا عن موقفهم لصعوبة التلاقي، طوى كل منهم قلبه وأطلق مخيلته فكان شعره صادقا. أو أن المتنبي لم يقف ذلك الموقف الصادق من بيت شعر قاله أودى بحياته، أراد الهرب وقد تجمع حوله قتلة فذكره خادمه بالخيل والليل والبيداء التي تعرفه فكر راجعا حتى مات، هل كنا سنحمد ذكره لو لم يفعل. الأمثلة كثيرة لكن سأختم بموقف عظيم للشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، كان فقيرا معدما ثم جاءه بعض مال من ترجمته لرباعيات الخيام، فلما نفدت الطبعة الأولى أراد الناشر طبعها ثانية فرفض الشاعر، برغم حاجته الماسة للمال، لأنه سمع أن الشباب يرددونها في الحانات وقال الأخلاق أهم من المال.