عقيل بن ناجي المسكين ظاهرة التكسب بالشعر برزت منذ ازدهار سوق الشعر في الحياة العربية بدءاً من العصر الجاهلي مروراً بالعصور الإسلامية حتى يومنا هذا، وهي بلا شكّ ظاهرة مَرَضية لأنها تتناقض ومصداقية الشاعر مع الحقيقة والواقع، حيث من المفترض أن يكون الشعر وسيلة فنية لأهدافٍ نبيلة تخدم الفرد والمجتمع والأمة، وتساهم في رفع مستوى الوعي والبصيرة عند الناس، لا أن يصبح الشعر مطية يستغلها الشعراء من أجل المصالح المادية/الذاتية، ونحن من خلال هذا البحث القصير عن ظاهرة التكسب ستكون آراء الشاعر أحمد الصافي النجفي ( 1897م- 1977م ) هي مدار هذا الموضوع، وقد انتقد الصافي هذه الظاهرة كما انتقد بعض الشعراء القدامى لأنهم يتكسبون بأشعارهم، ولم يسلم منه شعراء عصره من هذا النقد. وخير ما يمكن أن نعتمد عليه في تأصيل هذه الظاهرة هو الشعر الجاهلي، ومنه سنعرف أن " التكسب بالشعر لم يبدأ مع ظهور الشعر السياسي،" كما يظن البعض، ومن الأمثلة في هذا المضمار من العصر الجاهلي نرى " شاعراً فخماً كزهير بن أبي سلمى ينقطع لمدح جماعة من سادة ( غطفان )، وبخاصة هرم بن سنان، والحارث بن عوف، فقد هزّت شاعريته أريحيتهما وتحملهما الدّيات لإطفاء نار الحرب بين عبس وذبيان، على نحو ما هو مبسوط في مظانّ التاريخ الأدبي فاستنفد في مدحهما أكثر شعره وأجوده؛ وبسط له هؤلاء الممدوحون أيديهم وأغدقوا عليه.. وكان زهير شاعراً مجوداً حكيماً. وكان الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) شديد الإعجاب به. وكان يسميه شاعر الشعراء. ومما يؤثر أنه قال لبعض أولاد هرم: أنشدني بعض ما مدح به زهير أباك.. فأنشده : ( دع ذا وعدّ القول في هرم ) فقال عمر: إن كان زهير ليحسن القول فيكم، فقال له: ونحن والله إن كنا لنحسن إليه العطاء.. فقال عمر: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم…"، وهناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل في التاريخ الجاهلي يمكن الرجوع إليها في أمهات المصادر، وهذا المثال يعرفنا أن التكسب بالشعر كان موجوداً في العصر الجاهلي، وكان الزعماء وأصحاب النفوذ والملوك يغدقون الأموال على الشعراء، وبالطبع كان لذلك غايات ومصالح سياسية واجتماعية، كما أن " … التكسب بالشعر كان سمة عامة وبخاصة في العصرين الأموي والعباسي، فالشعراء كبيرهم وصغيرهم اتخذوا من المديح وسيلة للتكسب ولم يعدل عن هذا الطريق إلا القلة التي لم تكن في حاجة إلى المال أو التي ترى في الشعر تعبيراً عن الذات لا خدمة للآخر، ويمثل الفريق الأول أبو فراس ويمثل الفريق الثاني العباس بن الأحنف، ولا شك أن المدح والتكسب به وفّر للشاعر سبل العيش الكريم وجعله متفرغاً للتجويد، ومهما قيل عن جناية التكسّب على الشعر والشعراء وصرفهم عن أنفسهم وتسخير موهبتهم لخدمة أناس لا يستحقون ذلك واتهام الشعراء الكبار بالكذب والنفاق والاستجداء أو الشحاذة، فالمتنبي عند أحد النقاد هو شحاذٌ كبير "، وبذلك ظهرت بذور أمثال هذه المعايير في تحديد صدق نوايا الشعراء فيما إذا تقربوا بأشعارهم إلى السلطات على مدار التاريخ، حتى لو كان تقربهم ذلك رسالياً ولخدمة المبادئ والقيم، فبمجرّد تقرب الشعراء من الحكام والسلاطين والأمراء ولو على سبيل المجاملة أو التحبب إليهم لتحقيق غايات محددة، هذا التصرف قد يعده البعض مثلبة من مثالب هؤلاء الشعراء. ومما لا شك فيه أن " الشعراء في العصور الإسلامية يركبون متون القوافي إلى الغنى واليَسار حتى مع الاستغناء وقلة العيلة، وعدم الحاجة التي تُلجئهم إلى أبواب الممدوحين، وهذا ما نراه في حياة ( سلم الخاس) الذي انقطع لمدح البرامكة، ولما مات ترك وراءه مائة ألف دينار، وليس له وارث وفيه يقول أبو العتاهية: تعالى الله يا سلم بن عمر أذل الحرص أعناق الرجال هب الدنيا تجيء إليك عفواً أليس مصير ذلك إلى الزوال ؟ وإذا تصفحنا دواوين الشعراء في هذه العصور فسوف نجد أن المدح يأخذ منها أكبر مكان، وكانت هذه المدائح تتصبّى الخلفاء والأمراء، وتبهرهم، وتهزّ أريحيتهم، فقد كانوا عرباً يجيدون العربية ويتذوقون الشعر، ويجيزون ويخلعون على الشعراء ويطرفونهم.. اللهم إلا إذا استثنينا القلة القليلة التي ترفعت عن التمدح لأسباب خاصة، والذين قصروا أشعارهم على الغزل، وهؤلاء الذين كانوا يناصبون السلطة الجائرة العداء…" ، والصافي لم يكن ممن يتخذون المدح سبيلاً للإثراء، والمدح قليل في شعره على أي حال، ولنتأمله قائلاً : لو كنتُ أمدحُ أقواماً ذَوي رتَبٍ ما بتُّ أشكو من الإقلالِ والبؤسِ أخلصتُ للحقِّ فنَّاً فافتقرتُ، فهلْ أبكي على الحقِّ أم أبكي على نفسي ! وللشاعر أحمد الصافي النجفي فلسفة في ذلك، ففي قصيدته ( شاعر وتاجر) من ديوانه الأغوار الذي صدر بطبعته الأولى سنة 1944م عن منشورات دار المكشوف ببيروت، يركز الصافي على توظيف ثنائيتين متناقضتين في اللغة والواقع، إلا وهما ( الشاعر ) و ( التاجر ) وقد أسقط كلا الصفتين على شخصيته من باب التقمص التمثيلي المطابق للواقعة النفسية المحتدمة بين كونها نفس الشاعر، ونفس التاجر، ووصف النفس الشاعرة بالحياة، بينما وصف النفس المتاجِرة بالموت، وكم هو رأي جميل، حيث أن الشاعر كما قال في مقطوعته السابقة مع الحق، والحق حياة، بينما التاجر مع المصلحة الذاتية في الدنيا والدنيا كلها زائلة أي أنها موتٌ بالقوة والفعل كما يقول الحكماء، يقول الصافي: أراني حياً حين نظمِ قصائدي إذن أنا ذو شخصين حيٍ وميّتٍ أشاهد شخصي الميتَ يغدو متاجراً ولم يبغِ شخصيَ الحيّ ربحاً بشعرهِ فما يبتغي البحر الخضم تجارةً أرى الناسَ إما مُبدعاً أو متاجراً يورّث شخصي الحيُّ شخصيَ ميّتاً وميتاً، متى أفرغْ من النظمِ، مطويا هما حسبما شاءا قد احتكما فيّا بما قال شخصي الحيُّ مهما يكن عيَّا فقد قال قولاً منه لا يرتجي شيَّا بِدُرٍّ، وإن راقت تجارته الدنيا بما أبدع الباقون من أنفس الأشيا ولم أرَ قبلي ميّتاً يرث الحيّا وللأستاذة الدكتورة نورة الشملان رأي في قصائد المدح إذا كانت تحتوي على شروط الإبداع والتجديد في المعاني وابتكار الصور الجديدة بغض النظر عن الانتقادات الكثيرة التي حصل عليها شعراء المديح على سبيل التكسّب ف " مهما قيل في ذلك فالشاعر في ظل الممدوح أبدع وإذا كان بعض من مدحوا لا يستحقون ذلك فإن الشاعر من خلال مدحهم قد رسم صورة للقيم والمثل التي يؤمن بها المجتمع …" ، وهو رأيٌ له من الصحة بمكان إذا تناولنا النص الشعري مجرّداً عن الاعتبارات الأخرى بحيث نتعامل مع النص على أنه إبداع لغوي فيه من البيان والبلاغة ما فيه، ولكننا في أغلب الأحيان لا نفصل النص عن الواقع، كما لا نفصل النص عن رسالة المثقف والمبدع في الحياة، وهي رسالة لا يمكن أن نفصلها عن المبادئ والقيم على الإطلاق، وبالتالي فإن الشاعر الملتزم يعتني بشعره من الناحية الفنية كما يعتني بشعره من ناحية المبدأ، وبالتالي فإنه يستحيل أن يحوّل إبداعه الشعري إلى صناعة يتكسب بها، كما كان الكثير من الأوائل، إلا أن بعضهم لم يكن يتكسب بالشعر حيث " كانت طريقة نظم الشعراء ارتجالية، فتأتيهم ألفاظه عفواً، ومعانيه رهوا، كما وقع للحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم، أما من اتّخذه صناعة يستدرها ويلتمس به الجوائز، وينشده في المحافل والمواقف العظام، فإنه يتعهده بالتهذيب والتنقيح، لجعله رقيق الحاشية، حسن الديباجة…" ، من هنا نعرف سبب عدم اهتمام الصافي بالكثير من شعره، ولكنني أعلل ذلك أيضاً بإيمان الصافي بالصدق الفني فهو كما يُلاحظ في شعره صادق مع نفسه وصادق مع المتلقين، إنه يريد أن يقول: ها أنا ذا بنجاحاتي وإخفاقاتي دون كذب أو تزويق، وبالتالي فإنه كما يقول زهير المارديني: " لم يكن …من الشعراء الذين يتخذون من الشعر مطيّة إلى المال.. فالشعرُ في رأيه، فنٌ ، وفكرٌ، وموقفٌ.. فلم يتكسب في حياته من شعره على غرار أمثاله من شعراء عصره…" ، بل إنه كان يتهجم في الكثير من قصائده ومقطوعاته ونتفه على من يتكسب بشعره، ويدعو إلى من يحرر الشعر من هذه الفئة: مَنْ ذا يُحررُ روحَ الشعرِ منْ فئةٍ قدْ صيّرت منه عبداً يخدِمُ الأمَرا إنْ يعبدِ الناسُ بعضٌ بعضهم صنماً فإنَّ كهّانَهُ ليسوا سِوَى الشعرا كما إنه لم يجعل جل اهتمامه بالمال بل لم يكترث به أو " يهتم له، وقد ترجم في شبابه– حينما كان في إيران – رباعيات الخيام ترجمة بديعة قضى فيها ثلاث سنوات تعلم لأجلها اللغة الفارسية وقد قال له الأستاذ الذي يدرس شاه إيران الأدب الفارسي آنذاك: " قرأت ترجمتك للخيام وأكاد أعتقد أن الخيام نظم رباعياته بالعربية والفارسية معاً وقد فُقِد العربي منها فعثرت عليه وانتحلته لنفسك: " وقد طُبِعت ترجمته للخيام فنفذت في شهور ولكنه رفض – طول عمره – أن يُعيد طباعتها مرة أخرى رغم ما كانت ستعود به من مال، لأنه رأى بعض الشباب يرددونها في الحانات، كانت الأخلاق أهم عندَه من المال دائماً، وكان يقول: إنني ترجمتُ الرباعيات لما فيها من قيم جمالية وأدبية ولم أقصد بها ما يردده بعض السفهاء ! "، ولنتأمله يقول : ولم أسعَ نحوَ المالِ إلا لِعيشةٍ وما المالُ لو أمّنتُ في غيرهِ، الرزقا وما بيَ زهدٌ، غير أنيَ صيرفٌ أفتّشُ في الدُّنيا، عن الجوهَرِ الأنقى ولي جنة في الروحِ، حُرَّا سكنتها وعِفتُ جِناناً تجمّعُ المالَ والرِّقا لقد " هجر التدريس وكلُّ عمل آخر إلى الأدب الخالص أو الشعر على الأخص دون أن يحصل على أي مكافآت على إنتاجه، ولم يكن يتكسب بشعره على الإطلاق، بل كان يعتزّ به أيما اعتزاز…"، ولتأمله في أشعته الملونة قائلاً: أنا حسبي ثروةٌ من أدبِ قد كفتني عن طِلابِ الذّهبِ فليَعِشْ جيبي فقيراً، إنّما فقرُ جيبي ثروةٌ للأدبِ وفلسفة الصافي في المال أقرب ما يمكن تعريفها به هو ما ورد عن المال في ترجمته لرباعيات الخيّام، وهو نتيجة طبيعية لتأثره بفلسفة الخيام والمعري ولنتأمّل هذه المقطوعات: المالُ إنْ لَمْ يَغدُ ذُخرَ أُلِي النُّهَى فالفاقدونَ لهُ بعَيشٍ أنكدِ أضحى البنفسجُ مُطرقاً مِنْ فقرِهِ والوردُ يَضحكُ لاقتناءِ العَسجدِ أو قوله: حتّى مَ في همٍّ لما يأتي وهَلْ يَجني جميعُ الحازمينَ سِوى العَنا الهمُّ ليسَ بزائدٍ أو مُنقصٍ في الرّزقِ فالتَزِمِ المَسرَّةَ والهَنا أو قوله: حتى مَ تُصبحُ للأطماعِ حِلفَ عَنا حيرانَ تعدو بهذا الكونِ مُفتتنا مَضَوا ونَمضي وكمْ يأتونَ بعدُ وكَمْ يَمضونَ مِنْ دونِ أنْ يحظى امرؤٌ بِمُنَى نخلص من كل ذلك إلى أن الشاعر أحمد الصافي النجفي لم يكن ممن ينطبق عليه أنه أدركته حُرفة – بضم الحاء – الأدب كما أنه لم يجعلها أيضاً حِرفة – بكسر الحاء – له يتكسّب من نتاجها، بل هو شاعر بمعنى الكلمة وقد ركّز في شعره على المعاني وصور الحياة بكل ما فيها من بؤسٍ وشقاء وحرمان، ومن كثرة هذه الصور في شعره يكاد يُقال أن رسالته في الشعر هي التعبير عن هذه المشاهد بأنواعها على مستوى الذات، وعلى مستوى الآخر/ الجمع، والآخر/ المجتمع، والآخر / الأمة، والآخر / الإنسانية بشكل عام. الهوامش: * – شاعر وكاتب سعودي، ماجستير في الأدب العربي من الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، لندن،2006-2009م. 1- أبوفاشا، طاهر، الذين أدركتهم حرفة الأدب، ( ط: 1؛ بيروت: دار الشروق،القاهرة، 1981م )، ص:14. 2- المارديني، زهير، حكايات مع الأدباء.. أحمد الصافي النجفي، ( ط: 2؛ لندن: رياض الريّس للكتب والنشر، 1989م )، ص: 36. 3- الشملان، نورة، رجال السياسة ونقد الشعر(مقال)، جريدة الرياض، العدد: 13506 الخميس: 9 /5/ 1426ه 16 /6/ 2005م، نقلاً عن [ www.alriyadh.com ]، ص:1 ، في الموقع. 4- المارديني، زهير، حكايات مع الأدباء.. أحمد الصافي النجفي، ( ط: 2؛ لندن: رياض الريّس للكتب والنشر، 1989م )، ص: 36 ، 37. 5- النجفي، أحمد الصافي، أشعة ملونة، مكتبة المعارف، بيروت، ط4، 1983م، ص 197. 6- النجفي، أحمد الصافي، الأغوار، منشورات دار المكشوف، بيروت، ط1، 1944م ص 20 ، 21. 7- الشملان، نورة، رجال السياسة ونقد الشعر(مقال)، جريدة الرياض، العدد 13506 الخميس 9 /5/ 1426ه 16 /6/ 2005م، نقلاً عن [ www.alriyadh.com ]، ص:1 ، في الموقع. 8- الهاشمي، السيد أحمد، جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب، ( ط: 22؛ مصر: دار الفكر، المكتبة التجارية الكبرى، 1387ه، 1967م )،ج: 2، ص: 28. 9- المارديني، زهير، حكايات مع الأدباء.. أحمد الصافي النجفي، ( ط: 2؛ لندن: رياض الريّس للكتب والنشر، 1989م )، ص: 35. 10- النجفي، أحمد الصافي، أشعة ملونة، ( ط: 4؛ بيروت: مكتبة المعارف، 1983م )، ص: 156. 11- الجعيثن، عبد الله، أدباء في ضائقات مالية، ( ط: 1؛ الرياض: مرام للطباعة الالكترونية، 1996م )، ص: 71. 12- النجفي، أحمد الصافي، الشلال، ( : 1؛ بيروت: دار العلم للملايين، 1962م )، ص: 11 ، 12. 13- الجعيثن، عبد الله، أدباء في ضائقات مالية، ( ط: 1؛ الرياض: مرام للطباعة الالكترونية، 1996م )، ص: 68. 14- النجفي، أحمد الصافي، أشعة ملونة، ( ط: 4؛ بيروت: مكتبة المعارف، 1983م )، ص: 92. 15- النجفي، أحمد الصافي، رباعيات عمر الخيام، ( ط: 1؛ بيروت: مؤسسة البلاغ، 2003م )، ص: 92. 16- النجفي، أحمد الصافي، رباعيات عمر الخيام، ( ط: 1؛ بيروت: مؤسسة البلاغ، 2003م )، ص: 216. 17- النجفي، أحمد الصافي، رباعيات عمر الخيام، ( ط: 1؛ بيروت: مؤسسة البلاغ، 2003م )، ص: 222.