لا يخرج قارئ الرواية من قراءتها عابراً متخففاً مثلما دخل، فلابد أن يعلق في ذاكرته شيء منها ولابد أن تترك أثرها فيه. قد تعلق في ذهنه بعض الأحداث وقد تؤثر فيه إحدى الشخصيات أو المقولات، وقد تثير فيه فضولاً ما وتُنعش فيه الخيالات والأماني والرغبات. وكلما امتازت الرواية المقروءة بسمات الجودة الفنية كلما تعمّق أثرها في وجدان القارئ. إن عالم الروايات عالم شاسع جداً ومتنوّع وخصب، فالرواية هي ابنة الحياة، وكثيراً ما أخذت على عاتقها تدوين تجارب وحكايات الناس على مر التاريخ، لذا فإن قارئ الرواية قد يقرأ روايته بالطريقة التي يفضلها وبالأسلوب الذي يختاره ويجده مناسبا لأن تتماهى مشاعره وأحاسيسه ووجدانه مع عوالم تلك الروايات. إنه يقرأ ويتصور ويتخيل الشخصيات والأماكن والحوارات كما لو أنها شريط سينمائي ّفهو يرى ما يقرأ ويبصره ويتفاعل معه حتى لتكاد تصبح الرواية فيلمه المخترع. وكلما تقدم القارئ في قراءة الروايات كلما خلق له طقساً روائياً خاصا به. إن لقارئ الرواية الجيد قنديله الخاص الذي به يستدل على الروايات التي تلائمه وتنسجم مع متطلباته في القراءة، ولكل قارئ مزاجه الذي يوجهه لقراءة روايات بعينها في فصول محددة من السنة وقراءة أخرى في أوقات لا تراعي دورة المواسم، كما يحمله هذا المزاج إلى الاختلاء براوية ما في زاويته الخاصة وتوقيته الخاص أو يتركه معها في صالات المطارات وأثناء أوقات الانتظار. هناك قارئ يرهن نفسه لنوع محدد من الروايات وهنا كقارئ آخر مغامر، ينفتح على قراءة تجارب روائية مختلفة ومتنوعة، فأطياف القراء متعددة ومن الصعب تصنيفها وتوصيفها. وفي كتاب "القارئ.. على الناصية الأخرى" هذا -وهو عنوان تم تحويره من عنوان رواية ماريو بارغاس يوسا "الفردوس على الناصية الأخرى"- ثمة محاولة لجمع بعض أطياف القراء في كتاب يرصد تجاربهم ورحلتهم في قراءة الروايات. إنه يضم شرائح متباينة من القراء، إذ قد تعرّفنا الإجابات على قارئ يمتاز بحسّ نقدي، وعلى آخر لديه عمق في رؤية ما اكتنزته ذاكرته من روايات، وثالث تشعر وكأنه قد عاش في نزهة ممتعة مع عوالم الروايات التي قرأها. وقد جمع الكتاب إجابات مجموعة من الروائيين وكتّاب القصة والقرّاء، وهم على اختلاف صفاتهم وأهوائهم، يحملون سمة مشتركة جمعتهم في تصنيف واحد وهي"قارئ الرواية" وعليه، لابد أن نشير إلى أنّ الهدف من جمع هذه الإجابات والرؤى ليس المفاضلة فيما بينها أو التمييز بين قارئ وآخر. إنها إجابات تحمل خلاصة ذاكرة قراء عبّروا عن مفضلاتهم الروائية وأعادوا التأمل في ما قروأ من روايات واستعادوا زمنهم وذكرياتهم مع تلك الحكايات السردية والأماكن والمقولات والشخصيات التي صادفتهم في رحلتهم القرائية. هذا الكتاب لا يعكس فقط وجهة نظر القرّاء الذين شاركوا في الإجابات بل قد تمتدّ وجهات النظر فتخلق ردة فعل عند قارئ الكتاب، فالقارئ الذي لديه خبرة سردية في قراءة الروايات سوف يجد بعض الإجابات التي تتفق أو تختلف مع رؤيته وسيؤمن عليها أو قد يتجادل ذهنياً معها، وقد تدفعه بعض الإجابات إلى تجديد وإنعاش ذاكرته مع روايات قرأها منذ زمن، بل وربما وجد القارئ نفسه مدفوعاً برغبة الإجابة على تلك الأسئلة المطروحة في الكتاب لكي يمتحن ذاكرته السردية، وربما دفعت الإجابات بعض القراء إلى تتبع ورصد عناوين الروايات التي تكرر ذكرها مثلاً، أو قد يدوّن قارئ ما أسماء الشخصيات أو المقولات التي لفتت نظره، أو أسماء الروائيين الأكثر حضوراً، أما القارئ الذي مازال يتلمس دربه في قراءة الروايات فسيكون له هذا الكتاب بمثابة الدليل المباشر للتعرف على ذائقة القراء الآخرين ومفضلاتهم وبالتالي تحريضه على البحث عن بعض الروايات وقراءتها ولفت نظره إلى أسماء مهمّة في عالم الرواية. الأسئلة المطروحة في الكتاب تحمل طابع الخفة، وقد تمنح إجاباتها لذة استكشاف تفاصيل ذاكرة قارئ الروايات مثلما قد تضيء نافذة للقارئ الآخر لكي يستدل على الروائيين والروائيات الذين كان لهم تأثير في تاريخ الرواية. فمثلاً، بعض الإجابات الواردة في الكتاب قدمت لنا إشارة ما وبعضها الآخر كرست رؤية ما، إذ نجد أن اسم دوستوفيسكي تكرر كثيراً في الإجابة على السؤال الخاص بأعظم الروائيين تأثيرا في عالم الرواية وكذلك تولستوي وبعض الأدباء الروس مما يعني أن القارئ العربي، بشكل عام، يحمل تبجيلاً خاصاً للمدرسة الروسية في الرواية. وعندما نجد أن أسماء بعض كتّاب الرواية الرومانسية تكررت في الإجابة على سؤال الروائي الذي لم تعد تقرأ له سنخرج بنتيجة مفادها أن الروائي العاطفي إنما هو رفيق مرحلة قصيرة وقد لا يعمّر طويلاً مع ذائقة القارئ. من جانب آخر، فإن شخصية كشخصية زوربا في رواية كازانتزاكيس وجان فالجان في بؤساء هوغو، وكذلك بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي كانوا هم الأكثر تأثيرا في وجدان وذاكرة المشاركين في الكتاب، وهو ما يعزز القول: إن هذه الإجابات تمنحنا تصورا معيناً عن: لماذا تصبح بعض الروايات وشخصياتها خالدة في الذاكرة؟ إن الإجابات في كتاب القارئ على الناصية الأخرى، بعفويتها أحيانا وببساطتها أحيانا أخرى، ثم بجديتها وعمقها في جانب آخر، قد تمثل أهمية للناقد وقد تمثل معرفة للقارئ وقد تحمل إضاءة سردية لكاتب ما. * جزء من مقدمة الكتاب