لأن الله خلق لك أذنين مقابل فم واحد.. لأنك لا تتعلم شيئا حين تتحدث، ولكنك تتعلم الكثير حين تستمع.. لأن الكلام شهوة وتصرف بدائي وسيطرة على الحضور، في حين أن الاستماع انضباط وتصرف راقٍ وسيطرة على الذات.. نعشق الحديث لساعات لأن الكلام (لا يجعلنا فقط محور الاهتمام) بل لأنه فعل سهل يعتمد على التداعي الحر للأفكار.. ونكره الاستماع (ليس لأنه يجعلنا فقط ضمن الأتباع) بل لأنه مهارة إرادية تحتاج إلى وعي كامل وتركيز متواصل - ولهذا السبب يسرح معظمنا أو ينام أثناء الخطبة أو المحاضرة.. .. مشكلتنا هذه الأيام أن الجميع يريد التحدث، وقليل يريد الاستماع.. حتى حين نتناقش، لا نستمع كي نتعلم (أو نحاول فهم وجهة نظر الطرف الآخر) بل للرد عليه وإفحامه حتى قبل أن ينهي كلامه.. الجميع يفضل الحديث لأن الكلام (صدق أو لاتصدق) أسهل من الاستماع.. فالحديث فعل عفوي تلقائي، بينما الاستماع فعل إرادي واعٍ.. حين تتحدث تكون ضمن سياق آمن تعرفه وسبق أن تحضرت له جيدا (لهذا السبب لا يحب سعادته طرح أسئلة محرجة أو تقطع أفكاره).. أما حين تستمع فتضع نفسك في موقف غير مضمون تضطر معه لإجراء تقييم سريع لما يقوله الآخرون.. يسهل عليك الحديث لأنك تتفوه بسرعة 225 كلمة في الدقيقة، في حين تحتاج ضعف الوقت (دقيقتين) إن أردت استيعاب نفس ال225 كلمة.. لهذا السبب تلاحظ أنك لا تستطيع سماع كل ما يقال أمامك في أي خطبة أو محاضرة أو كلمة يلقيها المسؤول.. وحتى في هذه الحالة يصعب عليك المتابعة لأكثر من 18 دقيقة (وهذا بالمناسبة سر محاضرات تيد) ما لم يتوقف المحاضر ليُشركك معه في الكلام.. ما لم تكن أنت الخطيب أو المحاضر (وبشرط عدم الإطالة أو التكرار) يجب أن تكون حذرا فيما يخص تداول فرص الحديث والنقاش.. حين تسرق المجلس بالكامل تسقط من أعين الناس وتدفعهم لمقاطعتك ومحاولة الاستخفاف بكلامك.. البعض يعتقد أنه حين يتكلم بإسهاب سيخلب الألباب ويتمكن من اقناع الناس بوجهة نظره.. ولكن الحقيقة هي أن حديثك الطويل (وعدم ترك الفرصة للآخرين) تجعلهم يملون منك وينصرفون عنك حتى وإن ظلت أجسادهم أمامك.. هناك دراسة نرويجية تؤكد أن أكثر الناس مهارة في الحديث (حسب استطلاعات الرأي) كانوا في الأصل مستمعون جيدون.. حين تتعلم كيف تستمع للناس وتتجاوب مع كلامهم ومشاعرهم لا يشعرون تجاهك فقط بالاحترام والمحبة، بل ويصنفونك كمتحدث جيد ولبق.. لا أطالبك بالصمت المطبق ولكنني فقط أحاول إفهامك الفرق بين الآليتين.. أحاول لفت انتباهك إلى أن إقناع الآخرين يتطلب إنصاتك أولا لأفكارهم وآرائهم ومنحهم فرصة الحديث خلال حوارك معهم.. تذكر بنفسك، كم مرة تجاهلت (بل وكرهت) شخصا ثرثارا استأثر بالحديث ولم يمنحك فرصة المشاركة وإبداء الرأي.. وفي المقابل تذكر (أكثر شخص محبوب بين أصدقائك) ستلاحظ أنه أقلهم حديثا وأكثرهم استماعا لك ولغيرك..! ... تذكر دائما أن الله خلق لك أذنين مقابل فم واحد..