هناك فرق بين الصواب وما تعتقد أنت أنه "صواب".. هناك فرق بين الحقيقة وما نشأت عليه معتقدا أنه "حقيقة".. هناك دائما حقيقة واحدة مطلقة، وملايين البشر ممن يعتقدون أنهم على صواب ويسعون لاحتكار الحقيقة.. ومحاولة احتكار الحقيقة والصواب نلمسها في آيات كثيرة مثل قوله تعالى "قالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء".. ففي الحياة الدنيا يمكن لأي جهة ادعاء الحقيقة وقول ما تشاء عن صحة موقفها، ولكن يوم القيامة سيتم تجاوز كل ذلك ومحاسبة الجميع على أساس الوقائع المطلقة والأفعال المجردة، بدليل تكملة الآية "فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون".. وهذا لوحده يثبت أن الكثرة والغلبة ليست دليل على صواب الشيء ذاته.. في كل زمان ومكان تتواجد أمم (تضم ملايين البشر) يعيشون ضمن ثقافة خاطئة تعميهم عن الصواب.. يتواجد دائما أنبياء يعرفون الصواب، مقابل مجتمعات كاملة تعيش في ضلال أو تملك فكرة مشوهة عن الحقيقة والصواب.. أفكارنا وآراؤنا ليست بالضرورة صحيحة أو مطلقة لمجرد أننا نشأنا عليها ولم نطلع على غيرها.. لهذا السبب يمكننا الاختلاف بقدر ما نشاء ونترك للتجربة والواقع الفصل فيما نحن فيه مختلفون.. لا يجب أن نقفز للافتراضات والاحتمالات والاستثناءات النادرة لتقرير ما هو صحيح أو خاطئ.. النظرية يجب أن تستنبط من الواقع (وليس العكس) وما لا يمكن إثباته يظل فرضية تقبل الأخذ والرد.. حين نتمتع جميعنا بتفكير عملي براغماتي نصل سويا للحقيقة الفعلية بصرف النظر عن الشخصنة وأسماء الرجال (فالحق لا يعرف بالرجال، إنما الرجال يعرفون بالحق)! أيها السادة؛ هناك ما يعرف بالفلسفة البراغماتية (أو العملية الواقعية) التي تعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة.. تحتكم إلى الفعل والنتيجة الملموسة، وتفصل بين الادعاءات من خلال الوقائع والأفعال.. حين تتأمل الفرق بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة (خصوصا في عالمنا العربي والإسلامي) تكتشف أن الأولى أكثر براغماتية وأخذا بالأسباب من الثانية.. لا تعتمد على ثقافة الاتكال أو التواكل (ولا حتى تتوقع إحسانا من السماء)، وبالتالي لا تعرف غير العمل والتطبيق والأخذ بأسباب القوة المادية.. وفي المقابل تجنح المجتمعات المتأخرة للتواكل والتهرب من المسؤولية، ثم تتوقع من الغير رعايتها والتصرف نيابه عنها.. تغرق في أفكار تنظيرية ونقاشات بيزنطية وخلافات لا يمكن الاتفاق عليها حتى بعد قرون.. لهذا السبب أرى أن نغلق باب النقاش بخصوص القضايا الجدلية والبيزنطية التي لا يمكن إثباتها أو حسمها على أرض الواقع.. أن نصبح أكثر براغماتية وعملية في طريقة تفكيرنا وعملنا ومنافستنا للأمم الأخرى.. أن نلتفت للأسباب المادية قبل الأسباب الإيمانية (ليس لأن الدنيا فقط تحكمها قوانين المادة) بل ولأن "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"..