جبور الدويهي روائي لبناني دخل عوالم الأدب بقلم لا يشبه أقلام الكتاب العرب. وأية محاولة لمقارنته مع كاتب عربي آخر ستقودنا إلى الفشل بسبب فرادته. بالطبع نحن نعيش موجة من الكتابة التي اجتاحت فضاءنا الأدبي، فقدت فيه الرواية نمطها السردي لترتدي أكثر من لباس والتباس. إنها بين الشعر والقصة والسيناريو، وبعضها ينحو نحو البوح المطلق الذي لا يختلف عن أدب الرسائل أحيانا وأحيانا يهوي إلى مستوى "الإيمايلات" اليومية التي يتبادلها تجريبيو العواطف الجياشة والنزوات بأنواعها وعشّاق النميمة. تميّز في آخر القرن الماضي وبداية هذا القرن عدد قليل من الكتاب الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية كتابة الرواية بقواعدها المتينة، أمّا أغلبية من ملأوا رفوف المكتبات بنتاجهم، ووجدوا في الإعلام التلفزيوني -الذي ضعف أكثره في هذه المرحلة - وفي مواقع التواصل الاجتماعي ضالتهم للترويج لنثرهم وشعرهم وما شابه. بات الأمر شبيهاً بمنافسة غير شريفة بين العارفين بفن السرد وبين من استثمروا علاقاتهم لدخول عالم الرواية واحتكاره تقريباً، وبالمقابل هناك عدد كبير من القراء المخدوعين بأسماء وجوائز ونصوص لم ترق لمستوى القراءة وهذا موضوع آخر يحتاج لكلام مفصّل. في روايته الأخيرة "طبع في بيروت" (إصدار دار الساقي) تبلغ متعة السرد وبناء الحكاية أوجها عند جبور الدويهي، ولا شك أن عناصر الإدهاش فيها لا تنتهي منذ أول صفحة إلى الصفحة الأخيرة (222) وهو رقم مثير للدهشة أيضاً، مع ملاحظة أن فصول الرواية الست والثلاثين وزعها باتقان شديد وكأنه يوزع مقاطع سنفونية فائقة الرّوعة. فصول قصيرة باذخة في سرد التفصيلات الجميلة بلغة تظهر بشدّة جمال اللغة العربية وسحرها. ولعلّ هذا أحد أسباب توجه خريج السوربون الفرنسية إلى الكتابة باللغة العربية رغم أنه يُدَرّس الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية منذ سنوات طويلة. فوَلَعَهُ بالحرف العربي وقدرته على حبكة العجائب نكتشفه منذ باكورة أعماله التي جاءت متأخرة و قد تجاوز الأربعين، ونفسها البصمة الفريدة نجدها في مقالاته. غير ذلك يبقى للأدب أسراره الخاصة ليُبقي في الواجهة كاتبا لا يقتله تكرار نفسه. ولعلّ براعة الدويهي تندرج في هذا السيّاق. كاتب لم يستعجل النشر حتى بلغ سن النضج . وظلّ لا مبالياً بسباقات السلاحف والأرانب الغريبة على ساحتنا. نال جوائزه من حيث قُيِّمَ جيدا، ولم يأسف على جوائز رُشّح لها ونالها غيره ممن يستحق ولا يستحق. " طبع في بيروت" حكاية أخرى من حكاياته اللبنانية القحّة. تسرد الحقائق بحلوها ومرّها بدقة تثير شكوك القارئ، وتدخله في دوّامة الأسئلة هل ما يقرأه نقلا للواقع وصياغة مختلفة لتاريخ الأمكنة والناس، أم أنه نتاج مخيلة الدويهي التي تزداد توقداً مع كل رواية جديدة؟ شيء واحد سنتفق عليه، بعد التلصص على كل أسرار فريد أبو شعر ومحبوبته "بيرسيفون" وتاريخ مطبعة "كرم إخوان" وهو أن للرواية بريق يأخذ الألباب وتأثير لذيذ طويل الأمد، ومقام رفيع قد يصعب على كثير من الأقلام بلوغه.