تؤكد منصورة عز الدين أن الجوائز لا تشفع للكاتب وكتبه أمام القارئ، معتبرة أن الجائزة ليست سوى تشجيع للكاتب المُجيد. الروائية المصرية التي وصلت روايتها «وراء الفردوس» إلى القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العربية في العام 2010 والتي تحتفي بالبعد النفسي لشخصيات أعمالها، يَبرُز في نتاجها أيضاً حضور عالم الحلم والذكريات، كمنطلق لفهم أوضح للعالم. بالإضافة إلى «وراء الفردوس»، صدرت لمنصورة عز الدين رواية «متاهة مريم»، والمجموعة القصصية «ضوء مهتز». هنا حوار معها: تنطلق كتاباتك من منطقة «التفاعلات الداخلية» كالحلم، الهلوسة والذكرى، لماذا تفضلين هذا الفضاء الغائم والضبابي للحكي؟ - هذا نابع من شغفي بلغز النفس البشرية وعلاقتها بالوجود، فأنا أساساً أميل إلى العمل الذي يُعنى برسم العمق النفسي للشخصيات، وعالم الحلم بالبديهة متصل بعلم النفس، فالحلم هو اللغة الخاصة بمنطقة اللاوعي، ولسان حاله. لا أقصد هنا أن الحكي عبر تقنيات مثل الحلم سيؤدي بالضرورة إلى رسم شخصية أكثر صدقاً، لكن بدمج عالم الحلم بمعطيات الواقع، أو بالوقوف في المسافة الفاصلة بين الاثنين، نستطيع أن نصل إلى فهم أعمق للشخصية. ولذلك ربما تجدني أميل إلى التمركز في المناطق البينية والرمادية كمنطلق للسرد، وهي مساحة تتيح للكاتب الانطلاق منها إلى حيث يشاء بحكم أنها تصل العوالم ببعضها بعضاً. هل يختلف لديك تناول هذه التفاعلات الداخلية في الكتابة من القصة إلى الرواية؟ - في القصة تكون تيمة الحلم أو القصة الكابوسية هي الخلفية للنص كاملاً، فمساحة النص تقتضي ذلك، وربما يتضح هذا في مجموعة «ضوء مهتز» التي انتشر فيها هذا العالم الرمادي. لكن الأمر اختلف معي في «متاهة مريم»، إذ إن اتساع المساحة يساعد في تقديم أفكار ومحاور أخرى للسرد، صحيح أن هناك من قرأ الرواية باعتبارها فانتازية غرائبية بحتة، لكن أيضاً هناك من تنّبه إلى أنها تعرض مثلاً للتاريخ الاجتماعي المصري بعد ثورة 23 تموز (يوليو)، عبر رسم متاهة المدينة وانقطاع الصلة بين «مريم» والعالم من حولها. هذه الأجواء الغرائبية ليست هروباً من الواقع بمقدار ما هي محاولة لفهمه. هل نستطيع أن نصف هذا العالم الغرائبي ومفرداته على أنه مشروعك الروائي؟ - لا أظن ذلك. في الأساس أنا ضد فكرة الثوابت، وأعتقد أن على الكاتب أن يسأل نفسه باستمرار، لأن الرواية لا تنطلق من أرض اليقين، بل من منطقة الشك. لا أحب الكاتب الذي يلتقط توليفة ما ثم يعيد اجترارها، وفي ظني أن «وراء الفردوس» تختلف عن العملين السابقين، فهي وإن كانت تُعنى بعالم الهواجس والبعد النفسي، إلا أنها أكثر ارتباطاً بالواقع، فالرواية طرحت قضية اغلاق مصانع الطوب الأحمر في منتصف الثمانينات، وهي قضية واقعية صرفة شغلت المصريين لفترة، بل وأثرت في التكوين الاجتماعي المصري، بخاصة في الريف. احتفيتِ في أعمالك بحكايات الجنّيات وانبعاث الموتى وغيرها من مفردات الموروث الشعبي، لماذا اخترت هذا النوع من توظيف الموروث؟ - الحكي الشفاهي كان بداية معرفتي بعالم الحكايات، فأنا نشأت في قرية صغيرة، وتربيت على حكايات الجنيات والغيبيات، كما أن للموروث الديني دوراً في بروز هذا البُعد، فقد تفتح وعيي على الحكايات وكل ما يزخر به الموروث الديني، وهذا أدى إلى اهتمامي بفكرة سيطرة البعد الميتافيزيقي على نظيره الواقعي. عالم الموروث الشعبي يعود في الأساس إلى نشأتي. الناس، حيث نشأتُ، كانوا يتعاملون مع تلك الأمور الماورائية بصفتها تفاصيل يومية في حياتهم، وأنا بدوري أحاول الاستفادة من تلك الحكايات فنياً وتوظيفها في كتابتي. أحب أن أخلط بين الواقع والخيال، فالتخييل هو بعد رئيسي في ملامح كتابتي. قمتِ بغزل قصة قصيرة «زهرة غلاديوس حمراء» من مجموعتك «ضوء مهتز» في نسيج روايتك الأخيرة، وهذا يستدعي سؤالاً حول فنية الكتابة الأدبية: الموهبة والصنعة، كيف تنظرين إلى هذه الثنائية؟ - الأمران متكاملان. ليست هناك كتابة من دون موهبة، وهذه الموهبة تفقد الكثير من دون حرفية الكاتب المتمرس، فالكتابة حرفة، ونحن في وسط المبدعين العرب نتعامل مع الإلهام في شكل يضفي عليه شيئاً من التقديس، في حين أن الكاتب الحقيقي يجب أن يمارس تمرينات على الكتابة، كمن يمارس هواية. وصلت «وراء الفردوس» إلى القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العربية، كما سبق أن شاركت في مهرجان «بيروت 39»، ماذا تضيف الجائزة إلى الكاتب في رأيك؟ - لا شيء يشفع للكاتب سوى كتاباته، حتى اسمه لا يشفع له. النص الجيد وحده كاف ليعبّر عن الأديب، وكل مظاهر التفوق مثل الجوائز والترجمات، تأتي كتشجيع أو تكريم، وبالطبع لها فوائدها، ومنها المساهمة في زيادة المبيعات. لماذا تتباعد المسافة الزمنية بين إصداراتك؟ - أنا أتعامل مع الكتابة برهبة وخوف، والحقيقة أنا لا أعرف إن كان هذا أمراً جيداً أم سيئاً، لكنني أحياناً أجد نفسي أتهرب من تنقيح أعمال شبه مكتملة، كما أن العمل الصحافي يلتهم الوقت. صحيح أنني لم أعد أعمل في الصحافة بانتظام منذ نحو سنة، إلا أنني أكتب مقالات من وقت إلى آخر، ما يعطي مساحة أقل للشروع في كتابة عمل إبداعي. كيف تقوّمين مشاركتك مشرفةً في ورشة الكتابة التي عُقِدت في أبو ظبي على هامش جائزة البوكر؟ - هذه الورشة مختلفة عن محترفات الكتابة بالمعنى الشائع، لأن المشاركين فيها كُتاب محترفون لهم رصيدهم من النتاج الإبداعي، وبالتالي هي ليست ورشة تعليمية، بل هي أقرب إلى الطاولة المستديرة، مطبخ لإنتاج الكتابة يتاح للمشارك فيه الاطلاع على خبرات روائيين آخرين. تفرغنا أنا والروائي اللبناني جبّور الدويهي قرابة أسبوعين لمناقشة أفكار ومشاريع روايات، ومراجعات لنصوص قيد الإنجاز. وعملية العصف الذهني بين العقليات المختلفة أثناء الورشة أعطت نتائج مميزة. التجربة كانت مفيدة للمشرف والمشارك على حد سواء، وهي في الأساس طقس مُستقى من جائزة «الكين» أو البوكر الإفريقية، وهدف الورشة الأساسي تقديم أصوات عربية شابة لترجمتها إلى الإنكليزية. طالبت في مقال نُشر في منتصف 2011 بتثوير مؤسسات الدولة والمجتمع، وبعدها رفضتِ عضوية لجنة القصة في المجلس الأعلى المصري للثقافة، مفضلةً الابتعاد على تعضيد الثورة داخل تلك المؤسسة، ما تعليقك؟ - المقال سبق «مؤتمر الثقافة المستقلة»، الذي لم يُعقد، وعندما كتبته، كان طموح سيطرة الثورة على المؤسسات لا يزال طازجاً. كنا لا نزال في سَكْرة إطاحة مبارك، وتم التفكير في خوض تجربة «التغيير من الداخل»، لكن للأسف فوّتنا تلك الفرصة على أنفسنا، وربما تكون الماكينة الإعلامية الراسخة للنظام السابق ساهمت في طمس تلك الصحوة بمهاجمتها لما أُطلِق عليه في حينه «التظاهرات الفئوية». في حين جاء رفضي لعضوية لجنة القصة، متزامناً مع مجزرة شارع «محمد محمود» التي رأيتُها بعيني. الوضع كان سيئاً والآمال القديمة تراجعت، وفي تلك الفترة من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، كانت مقاطعة المؤسسات الرسمية والتخلي عنها وسيلة مناسبة، وفق رأيي، للضغط على المجلس العسكري والمسؤولين عن الفترة الانتقالية، وأذكر أن كتّاباً آخرين تبنوا الرأي نفسه، مثل أحمد زغلول الشيطي وسحر الموجي، وسمعت عن انسحابات أخرى أعقبت استقالتي من اللجنة. أضف إلى ما سبق أنني لا أعرف للجنة القصة دوراً واضحاً، لا قبل الثورة ولا بعدها. هل كان أداء النخبة المثقفة المصرية سبباً في تفويت فرصة تثوير المؤسسات؟ - لا أُحمّل النتيجة للمثقفين وحدهم. الأطراف كافة تتحمل المسؤولية. كنا في حالة موات لثلاثين سنة. فئات المجتمع كافة كانت مهمشة لمصلحة مركزية الحزب الحاكم، لذلك لم يستطع أحد الوصول بأفكاره إلى الشارع، باستثناء «الإخوان المسلمين»، بسبب تنظيمهم ووجودهم الفعلي على الأرض قبل اندلاع الثورة. هل ينسحب هذا القصور على جماعة «أدباء وفنانين من أجل التغيير»؟ - لا بالطبع. الجماعة قامت بمجهودات جبارة في عز جبروت نظام مبارك، وشاركت مع حركة «كفاية» وحركات أخرى في خلخلة النظام، كما أن المردود المطلوب من حركة ثقافية مختلف تماماً عن نظيره المطلوب من حركة سياسية. ثم جاء انفتاح السياق المفاجئ الذي تلى سقوط النظام، ليربك الحسابات ويغير الخلفية، فتفوقت جماعة الإخوان. كيف ترين الوضع العام في مصر الآن، خصوصاً بالنسبة إلى حرية الإبداع؟ - ممارسة الحرية أهم بكثير من التنظير لها والتباكي عليها، وبالتالي علينا التعامل كفعل لا كرد فعل، ويجب أن نتعامل بجرأة الإسلاميين وصراحتهم. الإسلامي المتشدد لا يتورع عن المجاهرة بآراء بالغة العنصرية في بعض الأحيان، في حين يناور بعضنا ويقول «دولة مدنية»، بدلاً من «دولة علمانية». إذاً علينا في الأساس أن نحرر أنفسنا ولغتنا ونمارس حرية الإبداع. أنا لا أُبَسِّط الموضوع، وأعرف أن المعارك مع التيارات الدينية آتية لا محالة، لكنني استخدم التفاؤل كآلية للمقاومة. عموماً، تبقى معركتنا الكبرى في صوغ دستور يرضي المصريين ويدعم حقوق الإنسان وقيم المواطنة، ولا يتم تفصيله على مقاس فصيل بعينه.