الإسلام حدد المبدأ العام الذي يجب أن يسير عليه أي نظام حاكم، ألا وهو الحكم بالعدل والسوية، ثم ترك أمر الوصول إلى المبدأ العام للناس، توافقا مع ظروفهم الزمانية والمكانية.. كانت القضية أمام ابن خلدون على النحو التالي: هل يمكن لحكم المجتمعات أن يمضي في طريقه صحيحا معافى، دون أن يكون نابعا من نصوص من الشرع؟ فكان مضمون إجابته في المقدمة: لا تُقَيَّمُ شرعية الأنظمة السياسية، أيا كان نوعها، بمدى توافقها مع نصوص معينة من الكتاب والسنة، لأن مدار شرعية الحكم السياسي إنما يكون على العدل المناط بها إقامته ورعايته، فإن نجحت في ذلك فهي شرعية، وإلا فلا؛ ثم تبقى شرعيتها بعد ذلك تراوح بين التقدم والتراجع، اعتمادا على قربها، أو بعدها من المبدأ العام المقرر في قوله تعالى:" إن الله يأمر بالعدل". إذن، الإسلام حدد المبدأ العام الذي يجب أن يسير عليه أي نظام حاكم، ألا وهو الحكم بالعدل والسوية، ثم ترك أمر الوصول إلى المبدأ العام للناس، توافقا مع ظروفهم الزمانية والمكانية. من هنا، نجد أن ابن خلدون ينتصر للعقل، نظرا وممارسة ومراكمة خبرة، بوصفه منظما لمسائل الاجتماع البشري، وعلى رأسها ما يتصل بمسائل الحكم والسياسة. وهذه المسألة فرع من مسألة أكبر، هي علاقة العقل بالنقل، وهي، كما نعرف،مسألة من أعوص المسائل في التاريخ الإسلامي. ولربما لا نبرح الحقيقة، إذا قلنا إن قضية علاقة العقل بالنقل، أوالدين بالفلسفة، قضية قديمة، تناولها العلماء والفلاسفة من كل نحلة وملة، ولكل منهم زاويته التي كان ينظر منها إلى تلك العلاقة. ونحن هنا، في الكتابة عن رأي ابن خلدون في هذه المسألة، لا نروم استحضار تلك المسألة لذاتها، أعني علاقة العقل بالنقل، فلقد أصبحت، بالنسبة لفلسفة المعرفة الحديثة، في ذمة التاريخ، بقدر ما نحاول استحضار ومضات من تراثنا العقلاني، والذي أهيل عليه التراب، وطمره النسيان، منذ أن دخلت الحضارة العربية الإسلامية ليلها البهيم.! يمكن القول إن ابن خلدون خلص في بحثه لتلك المسألة، إلى أن الشرع ترك مسائل الاجتماع البشري لكي ينظمها الناس بعقولهم، وفقا لمداركها، وما راكمته من خبرة بشرية، دون أن يكونوا بحاجة إلى نصوص شرعية. ولكن كيف تم له ذلك؟ يقرر ابن خلدون منذ البداية، أن مصادر المعرفة الإنسانية تنحصر في مصدرين لا ثالث لهما: المصدرالأول: معرفة عقلية ميدانها العالم المحسوس. المصدر الثاني: معرفة تأتي من الوحي بواسطة الأنبياء. ومن ثم، فإن ابن خلدون يرفض أي مصدر للمعرفة غير هذه الاثنين، كالكهانة، والتصوف، والرؤى، والأحلام؛ وهذه نظرة عقلانية متقدمة جدا، خاصة بمقياس زمن ابن خلدون. بعد أن يحصر ابن خلدون مصادر المعرفة الإنسانية بذينك المصدرين، يعود فيفرق بين نوعي المعرفة التي تأتي عن طريق كل منهما. وهكذا، فالوحي مسؤول عن المعرفة التي تختص بما وراء عالم الحس، وهو عالم الغيبيات؛ أما العقل، فلكونه مشروطا بالتجربة الاجتماعية ومقيدا بها، فإنه مخول بتحصيل المعرفة الحسية التي ميدانها العالم المعاش؛ أي أنه مختص بشؤون الاجتماع البشري، ينظمه وفق مبادئ العقل الكوني، والتجربة البشرية . والسؤال هنا هو: إذا كان العقل موكلا بتسيير شؤون الاجتماع البشري، فما أساس ذلك من الشرع؟ يقول ابن خلدون مامعناه إن الشرع لم يفرض على الأمة نظاما دنيويا محددا يشمل جزئيات وتفاصيل حياتهم ومعاشهم؛ ولذا كان الوحي، في الغالب الأعم، خاصا بالتكاليف الشرعية؛ أما شؤون الدنيا وأمور المعاش، وعلى رأسها مسائل الحكم والسياسة، فهي متروكة للعقل، ليقرر بشأنها ما يراه حسنا وصالحا، وفق النظر، وتراكم الخبرة البشرية. يقول ابن خلدون في هذا الصدد:" فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات؛ وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)". ويعضد ابن خلدون رأيه في هذه المسألة، أعني ترك شؤون الاجتماع البشري لتنظيم العقل وحده، بالتأكيد على أن المعاملات التي جاءت في ثنايا النصوص، ومنها الطب النبوي، لا تعد من أمور الوحي، وإنما تحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم بوصفها خبرة بشرية متراكمة من المحيط العربي آنذاك. يقول في هذا الصدد:" والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديًا للعرب؛ ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل"؛ ثم يضيف:" فلا ينبغي أن يُحمل شيء من الذي وقع من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه". ويرد ابن خلدون على أولئك الذين فوضوا الشرع وحده أمر تنظيم شؤون الحكم والسياسة بقوله:"حياة البشر قد تتم بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم، وحملهم على جادته؛ فالحاكم الوازع ليس من الضروري أن يكون بشرع، فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب، فإنهم أكثر أهل العالم؛ ومع ذلك، فقد كانت لهم الدول والآثار فضلا عن الحياة؛ وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب، بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة، فإنه يمتنع". إن شرعية النظام السياسي، أي نظام، لا تتأتى من موافقته لنص، أو لنصوص معينة، إذ إن الإسلام لم يحدد منهجا بعينه صالحا للحكم، وإنما تنبني شرعية النظام على إحقاقه الحق، وبسط العدل، ورد المظالم إلى أهلها، ورعاية تكافؤ الفرص بين الناس، وتوزيع الثروة بالسوية، وحفظ الأمن والنظام، وكبح جماع الخارجين على القانون؛ وهذه مسألة عقلها الفقهاء المسلمون، حيث قال الشيخ ابن تيمية في الفتاوى(28/36) ما نصه:" فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة؛ ولهذا يروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، وإن كانت مؤمنة". ولله الأمر من قبل ومن بعد.