أذكر أنني قلت في مقال سابق بعنوان( السياسة بين الشرع والعقل) ما نصه:"مما هو معلوم بالضرورة من تاريخ الفكر السياسي، قديماً كان أو حديثا، أن التعالي بالسياسة،(= تسييس الدين)،لا بد وأن يؤدي إلى تشويه الدين من جهة، واستبداد السياسة من جهة أخرى. والدين الذي نتحدث عنه هنا، ليس هو الدين في روحانيته كما أنزله الله جل شأنه على رسله، وأمرهم بتبليغه إلى الناس لإخراجهم من الظلمات إلى النور. ما نقصده بالدين في علاقته بالسياسة، هو تحديداً ما تقوم به الأحزاب الأصولية في طول البلاد الإسلامية وعرضها، من تأويل لنصوصه قصدَ جرها عنوة إلى ميدان السياسة، لكي تؤدي دور حصان طروادة لإيديولوجياتها البراغماتية". كان الوحي في الأعم الغالب، خاصاً بالتكاليف الشرعية، أما شؤون الدنيا وأمور المعاش ومسائل الاجتماع والحكم، فهي متروكة للعقل. وهكذا، فإن قوانين الحكم والسياسة يمكن أن تعتمد على العقل وحده، دون الحاجة إلى شرع وقلت أيضا:"إن التعالي بالسياسة من منطقها البشري الإنساني المتغير، إلى ميدان المطلق، لابد أن يخلق منها إيديولوجيا قهرية لا تُرِي من تسوسهم إلا ما تَرى، ولا تهديهم إلا سبيل الرشاد. السياسة الملتحفة برداء الفكر الديني- واتساقاً مع منطق الفكر ذاته- لا تؤمن بالتعددية، ولا بنسبية الحقيقة، ومن ثم، فهي لا تؤمن بتداول السلطة ابتداء. والنتيجة التي لا مناص منها هي إقصاء من لا يؤمنون بذات الإيديولوجيا. وهذا هو الاستبداد بعينه". ينبغي علينا، ونحن نخوض غمار الحديث عن علاقة السياسة بالدين، ألا نغفل أمرا على جانب كبير من الأهمية، وهم أن الدين، والإسلام تحديدا حيث مجال اهتمامنا، ينقسم إلى :عقيدة وشريعة. العقيدة بين الإنسان وربه، إذ يعقد الإنسان قلبه على الإيمان بعقيدة معينة، مما لا مجال فيه لأي كائن من كان التأثير عليها. وأي تأثير قهري من الخارج، سينتج حالة من النفاق والتقية لا محالة. وأما الشريعة فلها جانبان: عِبادي(= من العبادة)، ومعاملاتي. الجانب العبادي، سواء منه الشعائر، أو تلك المعاملات التي لم يتبين مقصد الشارع منها، ثابت وقار، ولامجال لتسييسه إطلاقا. يبقى الجانب المعاملاتي المحسوب على الظرفية الزمانية والمكانية، وهو جانب ينتظم الجانب الأكبر من حياة المسلمين، سواء في مجال السياسة الخارجية(العلاقات مع المجتمعات الأخرى)، أم في مجال السياسة الداخلية،( العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد)، أم فيما يتعلق بتدبير أمور الحياة اليومية من عقود البيع والشراء، وعقود العمل، وما استجد من معاملات مالية حديثة، وعقودالزواج، وكافة أمور الأحوال الشخصية. المعاملات مبناها المصلحة، والمصلحة ليست ثابتة، بل متغيرة، ومن ثم فإن القول ب"تديين" السياسة، من ناحية (تثبيت)ما يخص جانب المعاملات، إنما هو ضرب من "تديين" ما لا يقبل التديين بطبيعته. كيف(أصَّل) الإسلام جوانب السياسة الثلاثة: العلاقات الخارجية، والعلاقة الداخلية، وجانب المعاملات الدنيوية بصفة عامة. في مجال العلاقات الخارجية، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم تعامل(سياسيا) مع رؤساء الدول في زمانه، فقبل منهم هداياهم، وصالحهم، وعقد معهم المعاهدات. وتبرز قصة الحديبية بشكل خاص عندما غلَّب صلى الله عليه وسلم جانب المصلحة في معاهدته مع قريش، فقبل شروط موفدها: سهيل بن عمرو، وخاصة ما يتعلق بأن على المسلمين أن يردوا من جاء إليهم مسلما من قريش، وأنه ليس على قريش أن يردوا من التحق بهم من المسلمين، وهي شروط اعترض عليها بعض الصحابة، وخاصة عمر بن الخطاب، لما ظنوا أنها تخالف قواعد الإسلام. كما وتبرز في اختياره صلى الله عليه وسلم لرأي الحباب بن المنذر في اختيار المكان المناسب في غزوة بدر. أما في مجال العلاقة بين المواطنين، فيشكل عقد صحيفة المدينة(أول عقد اجتماعي في التاريخ) مظهرا بارزا لكيفية تدشين علاقة تأخذ على عاتقها التعاقد على أساس حفظ مصالح البلد والدفاع عنه، وبنفس الوقت احتفاظ أهل كل دين بدينهم،( وأن عليهم"=المسلمين واليهود" الدفاع عن يثرب)، لكن في مقابل أن يكون(للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم). ثم يدشن الإسلام معيارا عاما للتعامل مع الأمور الدنيوية وعلى رأسها السياسة بالطبع، بقوله صلى الله عليه وسلم" ما كان من دينكم فإلي، وما كان من دنياكم فأنتم أدرى به". هذه المجالات الثلاثة هي ما نعنيها عندما نتحدث عن علاقة الإسلام بالسياسة. وكما نرى، فهي أمور متعلقة، إما بثوابت مصلحية كالعلاقة بين المواطنين ذوي الديانات المختلفة( سكان المدينة الذي عقد الني صلى الله عليه وسلم بينهم عقد صحيفة المدينة)، وإما بمصالح متغيرة، كما هو مجال العلاقات الخارجية الذي تحكمه المصلحة البحتة: الآنية والمستقبلية، وإما في مجال مصالح الناس اليومية داخل البلد نفسه. لقد كرس الإسلام المبدأ العام الذي يجب أن ينظم علاقات البشر، أعني به العدل في مفهومه الشامل. كما أكد على حفظ حقوق الناس المتفرعة من المقاصد الكبرى( حفظ العقل والدين والعرض والمال)، لكنه ترك تفاصيل كيفية القيام بهذه الأصول والحفاظ عليها إلى الناس وفق ظروف سياقاتهم الزمانية والمكانية. تسييس أمور ومصالح الناس، وبالجملة: مسائل الحكم والسياسة، أمر عقله ونظَّر له رهط من المفكرين المسلمين القدماء، الذين قرروا أن الوحي إنما يختص بالشرائع، وبالجملة ما ينظم علاقة الإنسان بربه، أما الحكم وشؤون السياسة فينظمهما العقل وتراكم الخبرة الإنسانية. ويأتي في مقدمة أولئك المفكرين، عالم الاجتماع وفيلسوف التاريخ: عبدالرحمن بن خلدون، الذي قرر في المقدمة أن شؤون الحكم ومسائل الاجتماع إنما هي مسائل دنيوية بحتة، وليست من تنظيم الشرع، ذلك " أنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات( = ومن ضمنها شؤون الحكم والسياسة). وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع. فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)".ولقد علق المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري على هذا النص الخلدوني بقوله في كتابه:( فكر ابن خلدون: العصبية والدولة)،:" ما يخص مسائل وقضايا العالم المادي المحسوس، وبصفة عامة شؤون الاجتماع، فإن ابن خلدون يرى أن الشارع لا يفرض علينا نظاماً معيناً محدداً يشمل جميع جزئيات وتفاصيل حياتنا. ولذلك، كان الوحي في الأعم الغالب، خاصاً بالتكاليف الشرعية. أما شؤون الدنيا وأمور المعاش ومسائل الاجتماع والحكم، فهي متروكة للعقل". وهكذا، فإن "قوانين الحكم والسياسة يمكن أن تعتمد على العقل وحده، دون الحاجة إلى شرع، لأن جوهرها إنما هو اجتناب المفاسد إلى المصالح، والقبيح إلى الحسن. وهذا وذاك تتم معرفته بالتجربة". وهذا ما أدركه أيضاً الفقيه الحنبلي الكبير:ابن تيمية، عندما أكد على "أن مدار الشريعة على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. فحيثما تكون المصلحة فثم شرع الله". وللمقال صلة.