حين وقع تفجير أوكلاهوما (الذي دمر المبنى الفيدرالي وقتل 168 شخصا من بينهم 42 طفلا) ظهرت شكوك بوقوف المسلمين خلفه.. أجَّجت وسائل الاعلام هذا الاحتمال، ورجَّحه رجال المباحث، وبدأ المسلمون يتعرضون لمضايقات، وأعمال انتقام .. استمر الحال لأكثر من عام حتى أثبتت التحقيقات أن المسؤول عن الحادث مواطن أميركي مسيحي أبيض يدعى تيموثي ماكفاي تطوع في جيش بلاده أثناء غزو العراق.. في تلك الأثناء شاهدت بالصدفة لقاءً متلفزا مع حاكم ولاية أوكلاهوما على محطة الCNN .. سأله المذيع: لماذا سارع الجميع لتحميل المسلمين مسؤولية هذه الهجمات؟ كان يمكنه أن يرد قائلا: بسبب تجاربنا السابقة معهم .. أو بسبب وجود ثقافة متشددة بينهم .. أو بسبب عدم استنكارهم للتفجيرات بعد وقوعها.. ولكن الرجل قال بكل هدوء: "أنا نفسي كنت أعتقد هذا، ولكن التحقيقات النزيهة أثبتت أنني كنت مخطئاً مثل معظم الأميركان، وبصفتي حاكما للولاية أقدم اعتذاري العلني للمسلمين، وأعدهم بعدم تكرار الظلم الذي وقع عليهم..." والآن ؛ حاول معي تحليل شخصية الرجل من خلال إجابته: ستلاحظ أنه كان يمتلك شجاعة أدبية حين قال: "أنا نفسي كنت أعتقد هذا"... ثم اعترف بخطئه وخطأ مواطنيه حين قال: "كنت مخطئا مثل معظم الأميركان"... ثم اعتذر علنا، وبدون أي محاولة للتبرير: "وأقدم لهم في هذه المقابلة اعتذاري العلني"... ثم ألزم نفسه عهدا يصعب تنفيذه : "وأعدهم بعدم تكرار الظلم الذي وقع عليهم"... .. وأغلب الظن أنك شعرت مثلي (حينها) بأنه شخص نزية ومحترم .. يتملكك هذا الشعور ليس لأنك تعرفه، أو يمت لك بصلة قرابه، بل لأن طبيعتنا الإنسانية تحترم مبادئ الصدق، والنزاهة ذاتها.. نرتاح لإجابة كهذه (رغم خوضه مع الخائضين) لأنه لم يحاول الكذب، أو التهرب، أو الاستشهاد بحوادث سابقة.. لم يتطلب منه الأمر أكثر من 15 ثانية (و 29 كلمة) لإنهاء المشكلة، واسترضاء المسلمين، وسحب البساط من تحت قدمي المذيع ... وهذا بالمناسبة ذكاء إعلامي، لا يمكن مقارنته بثقافة الانكار الشائعة لدينا ... علقت إجابته في رأسي، لأنها (أنموذج) لما يفترض أن تكون عليه أجوبة المسؤولين أمام المواطنين.. فالمسؤول لا يمكنه الكذب لوقت طويل، ثم يتوقع من الناس تصديقه.. لا يمكنه أن يداري أخطاءه، ثم يطالبهم بتفهم مبرراته.. لا يمكن لأي حجج ذكية أن تشفع له مثل اعتراف سريع وعلني... لا تحتاج لأن تكون وزيرا، أو مسؤولا لتدرك هذه المعادلة بنفسك.. لا تحتاج لأن تكون حاكم ولاية كي تدرك بأن "الاعتذار المثالي" يبدأ بالاعتراف بالخطأ، ثم الاعتذار عنه علنا، ثم تقديم وعد بعدم تكراره مستقبلا.. في حال فعلت ذلك بسرعة (وبشكل مباشر وصريح) ستحظى بتقدير الناس، ويعتبرك الجميع نزيها ومحترما رغم كل الأخطاء التي ارتكبتها بحقهم.. ولكن؛ قبل أن نعترف بأخطائنا الفردية، يجب أن نعترف بأن ثقافة الاعتراف غائبة عن مجتمعنا بأكمله.. يجب أن نعترف أولا بأن الإنكار والتملص واختراع المبررات، مازالت سائدة بين الجميع .. يمارسها الكبير والصغير، الظالم والمظلوم، المسؤول والمواطن لأن كل ذلك يعد (في سلوم العرب) من علامات الدهاء والفطنة والغالب بين الناس..