المدينة التي غادرتها لا تزال تلاحقك، تراها في صحوك قبل منامك. الاخضرار الذي سلبك لبّك، ولطف الشعبِ الذي أغرقك. للصوتِ الذي تتركه المدينة يداعب أذنيك، للموسيقى التي لا تزال ترانيمها في رأسك، ينتفض في قلبك الحنين كلما سمعته، ورقصة الكعب الشهيرة تلازم كعبيك، للجمال الذي يغويك بالعودة. يقولون: «سيأتي اليوم الذي يكون فيه ندمك على الاشياء التي لم تفعلها، أكبر من ندمك على الاشياء التي فعلتها.» حظيتُ في بداية العطلة الصيفية بفرصة الذهاب إلى جمهوريّة إيرلندا في رحلة ثقافية ترفيهية مع إحدى عشرة طالبة من جامعتي، جامعة الأمير سلطان، حيث قضينا قرابة الأسبوعين ما بين العاصمة (دبلن) ومدينة (غالوايGalway - )، ما بين أوقاتٍ نمخر فيها عباب المحيط الأطلسي، ونزور الجزر ونجوبها كاملةً بالدراجات، وأوقاتٍ نعرّج فيها على المنحدرات الخلّابة التي تخطف الأنفاس، نعبّئ صدورنا بالهواء المنعش وحواسنا بكل ما هو مدهش ومثير، نرقبُ المحيط من مطلٍ بانوراميٍّ ساحر. «أعطني النايَ وغنِّ»: إنّ واحدة من أفضل الطرق للتعرف على المدينة هي الضياع فيها، وقد ضعتُ حقًا. أمكنني أن أصافح المدينة، وأعانقها بصدرٍ واسع. أن آخذ وقتي وأمشي على أقل من مهلي وأتأمل جدرانها تروي قصصًا شتى من خلال الرسومات عليها، تفاصيل بيوتها، شبابها وشيبانها، أجري حواراتٍ أنهلُ فيها من مَعين لهجاتهم، وأتعلم لغتهم. للمقاهي التي تدلل الحواس وتحتفي بها، بدءًا من التصاميم التي تعكس إرث المدينة، إلى مذاق الكعك ورائحة القهوة، والموسيقى الشعبية التي تزيد من ترف المكان وعراقته، للمسرّات الحسيّة التي تؤثث الذاكرة. قرية تفيضُ بالإلهام: تقول إيلاف الريّش: «المدن الملهمة لا تغادرك إن غادرتها، ستظلٌّ هائمًا في الأفكار التي بعثتها بداخلك». وهذا بالضبط ما أحدثته قرية (سبيدل -Spiddal) في نفسي. سبيدل هي قرية صغيرة تقبع في مدينة غالواي يعتمد سكانها على الحِرف اليدوية في كسب قوت يومهم، قرية تفيضُ بالإلهام. إنها واحدة من الأماكن اللي أحسنت الجامعة اختيارها ونظّمت لنا زيارتها. أحببتها كثيرًا، وأودّ حقًا أن أحظى بتجرِبة العيش فيها لفترةٍ ما دون وسائل التواصل الاجتماعي، دون أجهزة، أن أجرِّب الحياة بوسائل العيشِ البسيطة، أن أقف في حضرةِ الحرفة وأكتسبها وأكسبها صديقةً لأيامي. سبيدل هي المكان الملائم جدًا للتواصل مع الذات، فمن خلال الحِرف يستطيع المرء أن يتأمّل ويتفكر ويتعرّف على نفسه بشكل أفضل، عبر منظار الحِرَف. وواحدة من الحرف التي أشعلت فيها ذاكرة طفولتي هي صناعة الفخار، إذ كنت من الأطفالِ المنجذبين للحرف اليدوية بمختلف أنواعها. وفي سبيدل خُضتُ التجرِبة الأولى في صناعة الفخار لرمز (كلادهCladdagh - ) المنتشر في الثقافة الإيرلندية على هيئة خاتم، والذي يرمز لثلاث قيم: الصداقة، والوفاء، والحب. حيث كانت الفتيات في أيام القرن الثامن عشر يرتدينه كخاتم خطوبة، أما الآن فيُرتدى للتعبير عن الحالة الاجتماعية. فإذا كان القلب موجهًا للخارج فيعني أنّ الفتاة عزباء وتود الارتباط، والعكس صحيح. ولا أخفي أنني لم أقاوم فكرة شرائه والاحتفاظ به كأعز ما عدتُ به من سحرٍ قديم. باختصار أستطيع أن أقول إنني الآن أقوى ألفَ مرةٍ مما مضى، قويّة كجيش. وأنّ مثل هذه الرحلات مهمة لنكون في خط المواهجة المباشرة مع العالم بثقافاته الواسعة، ولغاته المتعددة، وتاريخه، وحضاراته. إنّ هذا هو أهم سبل الوصول إلى الذات وفهمها واستيعابها، أن نعرف أنفسنا من خلال الآخر.