في نصوص نقدية كثيرة يأتي الحديث عن "الخلوة" بالنفس أو "العزلة" بوصفها المفتاح الذي يُساعد الشاعر على فتح "باب الشعر" حين ينغلق في وجهه لأي سببٍ من الأسباب، وعندما سُئل ذو الرمة عن المفتاح الذي يُفتح به باب الشعر قال: "الخلوةُ بذكر الأحباب". ويذكر ابن رشيق في (العمدة في محاسن الشعر) الكثير من الشواهد على أهمية خلو الشاعر بنفسه لكي يتمكن من استحضار أفكاره وإبداع الشعر الجيد، فقد كان جرير "إذا أراد أن يُؤبد قصيدةً صنعها ليلاً: يشعل سراجه، ويعتزلُ أهلهُ" "وربما علا السطح وحده، فاضطجع، وغطى رأسه رغبةً في الخلوة بنفسه". وأجاب كُثير عن سؤال: "كيف تصنع إذا عسُر عليك الشعر؟" فقال: "أطوفُ في الرباع المخلية والرياض المعشبة، فيسهُل عليَّ أرصنُهُ، ويُسرع إليَّ أحسنُه". الاختلاء بالنفس أمر مهم يُساعد الشاعر على ترتيب أوراقه واستحضار قريحته لإبداع الأفضل، وتزداد أهمية العزلة للشاعر في مثل هذا العصر الذي يكون فيه محوطاً بالمشتتات وبالناس بشكل شبه دائم بفضل وجود وسائل التواصل المختلفة، مما يضطره لقضاء معظم وقته في الرد على متابعيه، وملاحقة الجديد من الأحداث على حساب الوقت الذي يُفترض أن يقضيه في عزلة إيجابية تمكّنه من الإبداع. وتقول الشاعرة نازك الملائكة في كلام جميل عن أهمية العزلة لانبثاق القصيدة أو "وردة المعاناة": "الشعر معاناة روحية موصولة يصحب فيها الشاعر ذاته، ويعيش متفتح النفس بحيث ينبض قلبه مع الطبيعة والحياة بكل ما فيهما من عمق ومعنى، ومثل هذه المعاناة الخصبة لا تستطيع أن تعيش في الضجيج، وإنما لابد لها من الصمت والعزلة، والفراغ لكي تنبثق ورودها وينضج عطرها. ولذلك تحتاج إلى أن تتيح لنفسك شيئاً من انفراد تستسلم فيه إلى التأمل، وحياة الفكر واحتشاد الشعور. ومن لم يمنح نفسه ترف الأحلام وسكون العزلة لم يستطع أن يسمع صوت الله في نفسه، ومن ثم لم يستطع أن يبدع الشعر العظيم". من مؤشرات غياب الوعي لدى فئة من المتلقين تفسير ابتعاد بعض الشعراء المعروفين عن النشر بأنه إفلاس وعجز عن إبداع الجديد، مع أن ابتعاد الشاعر لفترة من الزمن أمر إيجابي يُعد من أبسط حقوقه، فقرار العزلة قرار حكيم ينبغي لكل شاعر يحرص على جودة إنتاجه أن يتخذه حين يشعر بتلاشي رغبته في النظم أو عندما ينخفض تفاعل المتلقين مع ما ينشر. أخيراً يقول حزمي سعد: لا والذي خلّاه في حسنه فريد ما أنساه لو فترة غيابه طوّلت إلا أنها ترقى لعيني من جديد الدمعة اللي يوم قفّى حوّلت