الصرخة للفنان مونش تطلب عملية تحكيم العمل الفني مهارة عالية من الخبرة الفنية ولا يكفي الإعداد النظري للمحكم لكي يفهم أساليب الفن ووظائفه والخصائص التقنية التي أثرت في تنفيذه، حيث تطلب عملية التحكيم تبرير الحكم على العمل الفني بكونه جيدا أو رديئا من خلال التقييم التحليلي الذي يقوم على أساس تقني والكشف عن الخصائص المتميزة أو الرديئة وراء جودة العمل الفني. ورغم كثرة المعارض والمسابقات المحلية التي من خلالها تشكل لجان تحكيم سواء لاختيار الأعمال الفنية التي تستحق العرض وعلى مستوى جيد من الأداء أو مسابقات ترصد لها جوائز لاختيارها كأفضل الأعمال المقدمة، إلا أن بعضا من لجان تحكيم هذه المناسبات الفنية لا يتمتعن بالقدرة الكافية ولا يتبعن الآليات الصحيحة المتبعة دوليا لاختيار هذه الأعمال ولا تعدو هذه المحاولات إلا أن تكون جهودا مبنية على آراء نقدية جمالية إبداعية أدبية من أجل أن يجعل المحكم اختياره لأعمال متميزة أو غير مألوفة بتفسيره وبدون مقارنتها بأعمال أخرى للفنان، فمن الاهتمامات الأولية حول تحكيم أي عمل فني هي المعرفة التاريخية حول العمل الفني والسيرة الذاتية لحياة الفنان، فرغم أن الحديث حول التوصل الى تحديد شكل العمل الفني الأصيل قد يصل بنا الى حلقة مفرغة لا يمكن الوصول الى مركزها غير أن كل مرحلة من مراحل إنتاج الفنان لها تجربة وليس هناك ما هو نهائي في هذه التجارب، كما أن ليس هناك عمل عبقري يبدأ به الفنان ككيان منفصل بل إنه يتدرج في هذه التجارب التي يفترض أن تخضع من المحكم للتحليل والمقارنة والإدراك المعتاد لمراحل تدرج الفنان وتنقله من مرحلة الى أخرى. كما لا يكفي أيضا أن يكون المحكم فنانا تشكيليا فقط، إذ إن عملية تقويم وتقييم العمل الفني ذات صلة وثيقة بمجالات أخرى مثل النظريات الجمالية (المحاكاة والشكلية والتعبيرية) والنظرية الإدراكية أو المعرفية وهي التي تشير الى: أولا :النقد الفني وهنا يفكر المحكم في نوعين من النقد للعمل الفني يضع له معايير ليقيس بها جودة العمل وقد تكون هذه المعايير هي عمل يحاكي الواقع أو يتضمن قوة تعبيرية انفعالية أو ينتمي الى نزعات فنية أخرى وبدون هذه المعايير لا يستطيع الناقد تقييم العمل الفني فعلى سبيل المثال تناول أربعة فنانين موضوعا واحدا هو المرأة فصورها كل فنان حسب فلسفته وقدرته وفكره فنجد لوحات لكل من الفنان بابلو بيكاسو وثيودور داينستى، وفرانك ويستون وأرنولد بوكلين فكل لوحة تمثل المرأة نفذت برؤية منفردة فلنبحث هنا في طابع عصر الفنان ونهجه ومعطياته الحسية والثقافية والتقنيات المتوفرة في هذا العصر جميع هذه العوامل لها تأثير على إبداع الفنان وتشكيل فكره وعطائه المنفرد وعلى المحكم أن يكون جديرا بهذه المسؤولية المعرفية ليستطيع تقييم العمل الفني. والنوع الآخر هو النقد السياقي ((Contextual والقصد منه النظر الى العلاقات المتبادلة بين العمل الفني والأشياء المحيطة به أي انه ينظر الى تاريخ الفن المحلي والظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية المحيطة بالفنان. وثانيا: تاريخ الفن وهو الإلمام بالظروف الاجتماعية والأدبية والعلمية وسبب ظهور التيارات الفنية على مر العصور وتطورها وعلاقاتها بهذه الظروف محليا وعالميا. ثالثا:الإنتاج الفني وهو مقارنة تاريخ الفنان ومعطياته في مراحل تجاربه المختلفة وتطوره في هذا السياق مع النظر في جودة العمل وأصالته وتحليل الجانب غير المرئي من الأفكار وتركيبات الخيال فلكل شيء مرئي أوجه أو فلسفة غير مرئية. رابعا: علم الجمال وهو الذي يستند على نظريات العلماء في فلسفة التعامل البشري مع الطبيعة والجمال والفن والذوق وهو العلم الذي عرف على أنه دراسة حسية أو قيم عاطفية أو تفسير الأشياء التي يدركها الفنان وإمكانية التعبير عنها بحواسه. وجميع هذه العوامل تمثل إطارا مرجعيا للتقويم بجانب إدراك المحكم لقيمة موضوع العمل الفني فيركز على الاعتبارات الجمالية التي يمكن فصلها عن الاهتمامات العملية إذ تكمن أهمية العمل الفني في قيمته المعبرة التي تشتمل على المشاعر الحسية مثل نعومة الألوان وتدرجها أو كثافتها أو ضربات الفرشاة العشوائية وكأنها ثائرة تتقمص وجدانيا انفعال الفنان فتنقل للمشاهد المشاعر العاطفية التي يرغب الفنان التعبير عنها كما يدرك المحكم الشعور بالانسيابية والنعومة بمجرد النظر، كما يدرك الإحساس باللون الحار والبارد أو الخطوط المتموجة أو المنحنية كمادة تعبيرية، كما في لوحة (الصرخة) للفنان مونش بألوانها المتنافرة وتشوهات الوجه التي تنقل لنا الإحساس بالقلق عندما نشاهد الصرخة المفزعة التي ارتسمت على الفم المرسوم بدون الاعتبارات التشريحية إذ إنه يحتل الجزء الأكبر من الرأس. كما يدرك المحكم الألغاز والرموز التي يتضمنها العمل الفني والتي تعد جانبا يزيد من حيوية التجربة الفنية وكذلك اللوحات السريالية التي بعضها قد يتسم بالغموض. جميع هذه الاعتبارات التي ذكرت تعد من أساسيات اختيار أعضاء لجان التحكيم، فبدون هذه المعايير لا يستطيع المحكم ان يدعم حكمه على العمل الفني، كما لا نستطيع نحن أن نفهم أسباب أو نتيجة التقييم وإصدار الحكم عليه. وما يحدث في المسابقات الفنية لا يتعدى سوى استبعاد أعمال كفرز أولي ومن ثم استعراض صور الأعمال المتبقية على شاشات الحاسب واختيار لجنة التحكيم المناسب منها للعرض، ومن ثم اختيار الأعمال الفائزة أو كأفضل أعمال مشاركة نظريا بناء عل إعجاب المحكمين بها دون تطبيق أو وضع المعايير التي ذكرت سلفا مما حجب مشاركات كثير من الفنانين المتميزين والصادقين في المعارض والمسابقات المحلية، فالفنان يبعد كل البعد عن الأساليب التقليدية والنمطية والعشوائية في تحكيم اعماله وينظر للتجديد والتميز فمن يصدر الحكم على أعماله حتى يتطور بها وحتى يرقي المستوى الفني في الأعمال المقدمة للمعارض لابد وأن تتوفر بشخصيته درجة عالية من الأداء والثقافة البصرية المذكورة، ففاقد الشيء لا يعطيه كما يقال. بيكاسو- المرحلة الزرقاء