إنك لترى الخلل ويبين لك الزلل، حين يعرض الناس عن أكابرهم إعراضاً نتج عن الفهم السقيم لمعنى «مواكبة العصر»، ففهم كثير من المخطئين أن تلك المواكبة لا تكون إلا حين لا يفرق بين العالم والجاهل، والحكيم والسفيه.. في كثير من قضايا المجتمع الشائكة، وفي كثير من المصالح المرجو تحقيقها، تتطلع أعين الناس إلى تدخل فلان من الناس بوجاهته لحسم القضية ورأب الصدع أو تحقيق المصلحة وتقريب المنفعة، ويكتب الله التوفيق لأولئك الوجهاء في كثير من تدخلاتهم، فيرى الناس أثر لمساتهم على المجتمع في شتى المجالات، وليس ذلك بمنأى عن التوجيه الإلهي في احترام أكابر القوم وعلية الناس، ويفسر هذا التوجيه الرباني في الأخذ بآرائهم والاستنارة بمشورتهم، والاستعانة بوجاهتهم حيث تنعدم رؤية الحلول ومواقع الصواب في القضية، ومن هنا نُفي السيرُ الصحيح، وادعاء الانتساب عمّن لا يبالي بهؤلاء ولا يعرف لهم حقهم وشرفهم بين المجتمع، فقال صلى الله عليه وآله وسلم «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا» فالمجتمعات الإسلامية عمومًا، تسير على هذا النمط مذ أشرقت شمس الإسلام على المعمورة، وليس ذلك مناقضًا لما جاء به الإسلام، بل هو من صميمه، وهو الوسيلة الأقرب والأيسر لتطبيق كثير مما جاء به الشرع من حلول ومنافع، وإنك لترى الخلل ويبين لك الزلل، حين يعرض الناس عن أكابرهم إعراضًا نتج عن الفهم السقيم لمعنى "مواكبة العصر" ففهم كثير من المخطئين أن تلك المواكبة لا تكون إلا حين لا يفرق بين العالم والجاهل، والحكيم والسفيه، فيمتطي جواد الجرأة على الأعيان والأكابر، وتختلط على الناس والمجتمعات آراء الحكماء والسفهاء، فلا يكادون يعرفون حكيمهم من سفيههم، وتتسع الطريق المهلكة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم "وينطق الرويبضة" قيل وما الرويبضة؟ قال : السفيه يتكلم في أمر العامة. فهذه الإشارة النبوية ساطعة مشيرة إلى ترك كثير من الأمور لأهلها، وزجر ونهي عمن لا يجد في نفسه الأهلية للحديث في أمور الناس عن تصدر قضاياهم والخوض في مشاكلهم، فإن ذلك مُؤذن بالفساد المجتمعي، ومنذر بالفوضى التي لا يقف فيها الناس على مواقع الألفة والتراص، ولزامًا أن ذلك يؤدي إلى تشرذم المجتمعات، وتكتل الناس، كلّ خلف من يهوى وكما قيل: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا وليس ذلك من الأمور التي يُختلف فيها عند التنظير والتقعيد، فكل عاقل يقر بهذه الحقيقة عمومًا، لكننا إذا ما أتينا إلى الواقع وجدنا إشكاليات كبيرة، ورأينا فجوات عميقة أحدثت بقصد وبغير قصد بين المجتمعات وأعيانها ووجهائها، وقد لا نستطيع أن نستطرد في الأسباب، أو نتوسع في طرح أسباب ردم تلك الفجوات، لكننا نلخص ذلك، في شيئين: الشيء الأول: ينشأ من تصدر كثير من الجهلاء لمواقع الرأي، فيكون أول همهم هو ستر جهالتهم بقمط من هو مؤهل ليحل محلهم، فيبدأ التنقص والازدراء بالآخرين، ويغض النظر عن معاني البناء والإصلاح بإشغال نفسه ومن معه بهدم مخالفيه وسد طريق الناس عن الوصول إلى ما قد يكشف عَوَرَه وزيفه، فيرى أن هذا الأمر وهو الحيلولة بين الناس وبعض وجهائهم وأكابرهم من أكبر الجهاد، ويبذل لذلك نفسه ووقته وماله حفاظًا على مكانته، بينما في الحقيقة هو فاقد لأدوات البناء، وجاهل بمقاصد الشريعة التي جعلت واجب الألفة والتراص مقدمًا على كثير من الواجبات، محافظةً على بقاء المجتمع يسير في خط مستقيم ككتلة واحدة بعيدًا عن التصدعات والتفرقات. أما الشيء الثاني: فهو الفهم القاصر لمعنى الوجاهة، واختزال معناها في إطار معيّن وإلباسها وصفًا خاصًا لا يكون إلا متناولاً لبعض شرائح المجتمع دون بعضهم، وهذا الذي نشأ منه الخلاف الثقافي والتباعد المعرفي بين طبقات المجتمع، فكثير من الوجهاء وأعيان الناس مع ما لهم من حظوة في المجتمع إلا أنهم يفتقرون لبعد النظر وسعة الاطلاع واستيعاب الآخر، فقد تشكلت المجتمعات بما تمارسه من عادات وثقافات وفنون مختلفة، تشكلت وتجمهرت وتميز كل جمهور عن الآخر بما يحسنه ويعشقه، واتخذت تلك الجموع والجماهير لها من أوساطها نجومًا ومشاهير يرون أنهم يعبرون عنهم ويتكلمون باسمهم، واتخذ كثير من الشباب أولئك المشاهير كوجهاء لهم يرون فيهم القدوة النسبية في عاداتهم لا في دينهم، وربما يأتي من لا يقدر قدر الناس، ولا يتشكل فكريّا بما تتشكل به فئات المجتمع، فيسب ويقع ويشتم وربما يفسق وربما يكفر مشهورًا من المشاهير أو متبوعًا من وجهاء المجتمع غير معتبر إسلامية المحيط الجماهيري بذلك المشهور مهما كانت أسباب شهرته، فيثمر عن ذلك النظر الضيق معاداة تلك الجماهير لهذا الذي يمس محبوبهم، وكثيرا ما يكون ذلك في أوساط الجماهير التي تعودنا منهم الانتساب لوجهاء كأتباع فلان وأصحاب فلان ومحبي فلان، فإذا بمحبي العالم الرباني فلان يقعون ويشمتون من أتباع الشيخ فلان، ومحبي المشهور فلان أيضًا يسخرون ويحتقرون أتباع فلان وبهذا نهدم الأصل المستقيم، والبناء القويم، ونقطع الحبل المتين الذي نتسمك به كي لا نقع في الطائفة التي أشار إليها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بقوله «ليس منا من لا يرحم صغيرنا ولا يعرف شرف كبيرنا» فكبارنا هم وجهاء المجتمع وأعيانهم وإن اختلفت ثقافاتهم ومشاربهم ، والله من وراء القصد.