الحقيقة هي أن الملل كان حاضرا منذ البداية، ولكن المواطن العربي (قبل ظهور القنوات الفضائية) لم يكن يملك خيارا غير متابعة الأخبار الرسمية.. أذكر حين غزا صدام حسين الكويت أننا كنا نشتري أجهزة الراديو الروسية لنعرف من "إذاعة لندن" ماذا يحدث في الكويت.. كان من مفارقات تلك الفترة أن يفرض إعلامنا الرسمي تعتيما إعلاميا على حدث كبير من هذا النوع فنضطر للبحث عنه في إذاعات العالم.. وحين فُتح سيل الأخبار وأصبح كل شيء واضحا فضل الناس متابعة الإذاعات والمحطات العالمية لأسباب تتعلق بعاملي التجرد والحيادية التي يفتقدهما إعلامنا العربي.. والمفارقة الأخيرة بالذات استمرت حتى بعد ظهور القنوات الفضائية التي أصبحنا نتابعها ونثق فيها أكثر من قنواتنا العربية (بدليل عزوف المواطن العربي عن قنوات بلده وتتبعه للقنوات الأجنبية). أما الكارثة الحقيقية فهي أن المواطن نفسه أصابه الملل والزهق (في السنوات الأخيرة) من كل الأخبار، فأصبح لا يتابع حتى القنوات والمحطات الأجنبية.. قد يعود ذلك إلى تعدد الخيارات، وكثرة التكرار، وتبدل الاهتمامات، أو تولد شعور عام باليأس والاحباط.. قد يكون السبب إصابتنا بالملل والسقم من فرط المشاهد المتشابهة والأخبار المستهلكة والقضايا العربية المعلقة منذ عقود.. المهم.. معظم الناس أصبحوا هذه الأيام أقل انجذابا للقضايا الكبرى ولم يعودوا يتابعون ما يحدث في فلسطين وسورية واليمن والعراق وليبيا.. لم يعد أطفالنا يسمعون ب"العدو الصهيوني" أو يعرفون أين تقع الصومال في حين مل كتابنا من كل هذه المواضيع (وأخبرني أنت متى كانت آخر مرة قرأت فيها مقالا عن فلسطينالمحتلة)! لم تكن هذه هي حالنا أيام والدي ووالدك.. كان هناك شبق حقيقي لمعرفة أخبار العالم وكانت فلسطين شغلنا الشاغل.. في تلك الأيام وحتى قبل ظهور التلفزيون السعودي كانت الصحف الورقية تصلنا من مصر والشام، وكان الناس يستعيرونها من بيت لبيت كونها الوسيلة الوحيدة لمعرفة أخبار العالم (خصوصا فيما يتعلق بالعدو الصهيوني).. وبطبيعة الحال سرعان ما أصبحنا نملك صحفنا الخاصة التي تصل من جدة والرياض بعد يوم أو يومين (وهو ما اعتبر في حينه رقما قياسيا جديدا).. وبعد فترة نمو متواصلة استمرت حتى منتصف التسعينيات بدأت الصحف السعودية تتراجع أمام الصحف الإلكترونية والقنوات الفضائية ووسائل الاعلام الجديد! المفارقة التي نلمسها اليوم لا تتعلق بالمصادر الإخبارية بل بالمشاهد والمتلقي الذي بدأ يبتعد ليس فقط عن صحافتنا وتلفزيوننا المحلي بل وعن سماع النشرات الاخبارية أيا كان مصدرها.. فاليوم لم يعد معظمنا يشاهد نشرات الأخبار المحلية أو يكمل نشرات الأخبار الأجنبية.. لم تعد القومية العربية أو الصحوة الاسلامية أو فلسطين الأبية (ولا حتى ما كنا نسميه العدو الصهيوني) تشغل بالنا أو تحثنا على فتح التلفزيون ناهيك عن الخروج للبحث عن الصحف الورقية.. حتى عقد التسعينيات كنا نشتري أجهزة الراديو الروسية لنعرف من "إذاعة لندن" ما يحدث في منطقتنا العربية.. واليوم تتواجد محطة البي بي سي في بيوتنا (مع ست قنوات شبيهة) دون أن تحظى باهتمام كبير... أليس مؤلما أن يترافق كل هذا الانفتاح الاعلامي والحرفية المهنية مع وصولنا نحن المتلقين لهذه الدرجة من الملل والعزوف الإخباري؟!