منطق استعلائي وازدرائي وسمَ ردود أفعال من نتوّهمهم النّخبة وصفوة الصفوة من عقول مثقفينا على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم. فكلا الطرفين يفترض في نفسه امتلاك الحقيقة المطلقة نافياً كلّ من يخالفه خارج دائرة الوعي. ولعلّ الجلبة والنقع اللذين أثارهما الانقلاب التركي الفاشل تجسيد واقعي لثقافة الإقصاء ونبذ الآخر ومصادرة رأيه من منطلق دوغمائي مستتر سرعان ما ينكشف عند أوّل عاصفة تغيير أو حدث يرى أنه معنيّ به ، فينبري كلّ طرف بممارسة كل ما يتاح له من عنف لفظي ورمزي سعياً لبزّ خصمه، يدفعه في ذلك أحكامه القبْلية التي يسعى لتبريرها وتسويغها لتكون متّسقة مع قناعاته واختياراته. وما ركام الآراء غير المتورّعة بحمولاتها النفسية والأخلاقية إلا ناقوس يدقّ خطره وعينا الجمعي. ترى لم وصلت بنا الحال إلى هكذا مآلات؟ وإلى أين يفضي مثل هذا الافتراق سيما وأنه شأن لسنا معنيين به بالدرجة الأولى في مجتمعنا؟ أبلسة وشيطنة بعض القنوات والمثققفين والإعلاميين لأنها لم توافق أهواءهم ومنطلقاتهم الفكرية أمور تحتاج مراجعة ووقفة صادقة مع النفس شريطة التحرّر نفسياً من أي قبْليّات مسبقة. ولعلي هنا أستحضر السؤال التالي: كيف يمكن حقيقةً للكلمات أن توصل تلك الرسالة التي لا يمكن التعبير عنها بكلمات؟ هذا السؤال الفلسفي طرحه كتاب"المركب الفارغ" للفيلسوف الهندي أوشو وجاءت الإجابة بشكل يمكن تلخيصه بتصرّف في فكرة مفادها أن يترك الإنسان تفكيره والأمور المنطقية ليُصبح فارغاً من الداخل، ما يسمح للإنسان أن يتخلّص من الشروط التي يضعها هو أو يضعها غيره لحياته، ويسمح له أن يتخلّص من الانتظار والتمنّي، الأمرين المرتبطين بالأنا المزيّفة، ويجعل العرفان الذي يحاول المعلّم الروحي أن يوصله شيئاً قريباً وملموساً لنا. وتوضح المحاضرات التي تضمنها الكتاب الفكرة القائلة بأنه ما دمنا في حالتنا الروتينية الحياتية الراهنة فليس هنالك مكان للشيء الروحي الذي لا يُعبّر عنه بالكلمات في داخلنا، مع تأكيده بأنه لا يمكن للبذرة الروحية أن تجد فسحة في تربتنا غير الصالحة، وهي ما زالت في حالة من الانتظار في داخلنا تتأمّل فسحة أو زاوية فارغة من عالمنا الداخلي الذي هو مملوء بالهموم وخطط المستقبل، الأمر الذي يُقفل الباب أمام أي شيء روحي. ويمضي في توضيح الفكرة ليخلص إلى أنّه لا يعني أن نبذل الجهد لنصل إلى هذا الفراغ وإلا اصطدمنا مع المُفارقة بأن اشتداد الجهد والعزم يُغذّي الأنا المزيّفة ما يجعلنا فاشلين بشكل كامل. والسؤال إذاً ماذا يمكننا أن نفعل؟ يجيب الفيلسوف شو بقوله: إنه علينا ألا نفعل شيئاً لأنّ الفعل يصدر من الأنا المزيّفة، وإنه علينا أن نكون منفتحين وأن نتقبّل كلّ الوجود حولنا وكل ما يجري فيه متجاوزين بذلك تفكيرنا الذي يحب التقييم.