في الفيلم الوثائقي "I am" للمخرج الأمريكي توم شادياك Tom Shadyac يطرح المخرج توم فكرة مهمة ويطرح سؤالا مهما على كل فرد منا. هذا السؤال هو "من أنت؟" ليستطرد من أنت فعلا؟ وليس ما علمتك الثقافة أو أبويك أو المجتمع؟؟. الكثير يعيش حياة تقليدية يجاري فيها الآخرين. من المؤلم أن تكون حياة الانسان ليست من تأليفه وإنما من تأليف آخرين! يرفع "توم" صوته عاليًاً ويقول يجب أن تؤلف أنت كتاب حياتك؟. "توم"ّ نفسه يحكي كيف كان يشعر بأن حياته فارغة! ثم تعرض لحادث كاد أن يقضي عليه! وكان بمثابة وقفة تأمل عميق وتفكير جدي في معنى حياته وجدواها! وأي وجهة سيصلها الدرب الذي يسير فيه؟. إنه فيلم وثائقي يطرح الأسئلة ويبحث الاجابات. تنقل "توم" فيه بين عدد من الدول وقابل عدد من الاقتصاديين والسياسيين والعلماء والفلاسفة ليسألهم ذات السؤال: أين الأنا؟وما الذي يجعل هذه الأنا سعيدة؟. تدور فكرة الفيلم حول التخلي عن الأشياء وضغوط الآخرين فيما يتعلق بما يجب أن نكون عليه. يقول "شادياك" بعت قصري الفسيح وعندما تخليت عن الأشياء شعرت براحة!!. بالطبع "توم" هنا لم يتحول الى شخص زاهد، وإنما تخفف من كثير من ما يحيط حوله من ممتلكات ومشاريع ربما انخرط فيها تلبية لمجتمعه ولمحيطه وليس تلبية لحدسه ورغبة قلبه!. يطرح "توم" فكرة جميلة وهي أن الخلايا الإنسانية لا تأخذ أكثر من حاجتها، والغريب أنها عندما تبدأ بذلك.. تسمى سرطانا!!!..السرطان اذن هو تكاثر وفائض يقتل الجسد!! لكننا في حياتنا المعاصرة نغذي نوع آخر من السرطان الروحي أو المعنوي! فتتخم أرواحنا وعقولنا بالكثير من الحاجات التي لا نحتاجها فعلا!!. لماذا نكدس هذه الأشياء؟! يتساءل "توم" ويجيب:حتى أكون أفضل من غيري؟ أو ربما مجتمعي يريدني كذلك أو أصدقائي أو لدي فراغ عقلي وروحي أريد أن أملأه بالسلام؟. إذن الانسان خالف قانون الطبيعة هذا! وبالتالي كانت عاقبته وخيمة من اغتراب وقلق وكآبة!!. الفيلم هنا طرح عوائق أن تكون"الأنا" هي "الأنا الحقيقية" لا المزيفة، لكن لا بد أن ننتبه لنقطة هامة. الفيلم هنا منتج غربي ونابع من ثقافة مغايرة لثقافتنا العربية. صحيح هناك تشابه في فكرة السؤال الوجودي والفلسفي الذي لا بد وأن يلح – وان اختلفت درجة إلحاحه - على جميع البشر أيا كانت جنسياتهم وهو عن الأنا وماذا تريد وكيف تتحقق!. ولكن الفارق في نظري يكمن أن الفيلم ركز أكثر هنا على فكرة التعلق بالماديات والهوس بالنجاح الخ. ولنتخيل هنا أن الفيلم من عمل مخرج عربي هل سيظل التركيز أكثر على الماديات التي تعيق الفرد العربي من أن يكون نفسه! أم لا بد أن نقرأ ثقافتنا بتمعن والتي لها عوائقها المختلفة عن مجتمع المخرج"توم"؟!. ما الذي يعيق الفرد لدينا؟ هل هي الماديات فقط؟ أم هناك عوائق أخرى؟. لعل من أبرز العوائق في المجتمعات العربية ومن ضمنها المجتمع السعودي، عامل ثقافي مؤثر أشار إليه العالم هوفستد Hofstede في كتابه (نواتج الثقافة) وهو مفهوم الجمعية Collectivism والذي يعني أن المجتمع يركز على قيم الجماعة وتبعية الفرد لها وتبني معاييرها ولو على حساب تحقيق ذاته وطموحاته والأهمية هنا للجماعة أولا وهي مقدمة على الفرد!!. المخرج"توم" في فيلمه تعرض لفكرة مسايرة الآخرين وتأثير ضغوطهم ولكن لا يفوت أن نشير الى أن المجتمعات الغربية هي مجتمعات فردية Individualism وبالتالي تؤكد على استقلالية الفرد وقيمة حريته واختياراته الشخصية وهي مقدمة على رغبات الجماعة!. ولنا أن نتساءل إلى أي حد طمست "الجمعية "لدينا هويات الأفراد وتمايزهم؟ الى أي حد "النحن" ألغت "الأنا" هنا؟!. حسنا لنتأمل قليلا.. سطوة المجتمع صارمة على الفرد وعلى أهدافه ومشاعره، حتى لو لم يكن المجتمع حاضرا واقعيا في موقف معين! بمعنى أن طاعة الجماعة والتبعية التي أحيانا تكون عمياء تكمن قوتها الأكبر في كونها مكون ذهني وفكرة تشربها الأفراد وبالتالي هي تلازمهم في كل شؤون حياتهم!. عندما يهم الفرد منا بعمل ما بمن يفكر؟! إنه يفكر في الناس من حوله وردود فعلهم! ومباركتهم لما يقوم به من عدمها!. كم سمعنا وقلنا العبارة التالية"طيب والناس!" و" ايش بيقولوا الناس!". لم نقل هنا مثلا "ذاتي ماذا تريد"؟!. هنا لا أتحدث عن أعمال أو أفكار محرمة لدى الفرد! لا بل هي أفكار وأعمال ربما بسيطة واعتيادية في غير مجتمعاتنا! لكن لا بد من أن تحاكم من قبل الجماعة قبلا! وربما ننهك أنفسنا كأفراد بالتنبؤ ماذا سيكون رد فعل الناس والمجتمع على ما ننوي القيام به من فعل معين!. مثال آخر خذ ببساطة عبارة "أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا" والتي نفاخر بتردديها! وكأننا ذكرنا "أنا" وأعلنا وجودها ثم عدنا نعتذر عن هذا الإعلان ونستعيذ بالله منها!!. خذ أيضا عبارة "خالف تعرف!" كيف نستخدمها؟ كل فرد يأتي بجديد من رأي أو عمل نجلده بهكذا عبارة! وأن ما ارتكبه من مخالفة ليس لتميزه وإنما للرغبة في الظهور وأن يعرفه الناس! ولنقل أن هذا الفرد رغب فعلا في الظهور ماذا في ذلك!. يحضرني في هذا السياق أحد ألمعيات الفيلسوف "نيتشه" إذ تنبأ أن البشر سيحيون في ضرب من ضروب "أخلاقية الرقيق" وأن الفرد قد ابتلعه القطيع!! ويعني أن الفرد سيفقد ملامح هويته المتفردة - أو المفترض أن تكون كذلك- في سبيل التأكيد على قيم الجماعة والذوبان المطلق فيها!!. في كتاب "العرب وجهة نظر يابانية" للكاتب الياباني نوتوهارا يذكر أن العالم العربي ينشغل بفكرة النمط الواحد؛ لذلك يُحاول الناس أن يوحدوا أشكال ملابسهم وبيوتهم وآرائهم. وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد وخصوصيته واختلافه عن الآخرين. يغيب مفهوم الانسان أو المواطن الفرد وتحل محله فكرة مجموعة المواطنين المتشابهين والمنصاعين لنظام المجتمع السائد!.هناك أمر يحيرني كثيرا وحير "نوتوهارا" كمراقب وملاحظ للمجتمعات العربية، أنه بقدر ما يشغلنا كأفراد هاجس الجماعة! اذن لماذا نهمل أو نخرب الممتلكات العامة التي نشترك فيها جميعا!! ويجيب في تحليل ذكي أن غياب استقلالية الفرد وقيمته يغيب معه أيضا الوعي بالمسؤولية عن الممتلكات العامة مثل الحدائق أو الشوارع أو مناهل المياه ووسائل النقل الحكومية (باختصار كل ما هو عام) والتي تتعرض للنهب والتحطيم عند كل مناسبة!!. أفكر نحن مليارات على الكرة الأرضية ولا يوجد فرد يشابه الآخر في بصمته ولا يشابهه تماما في تكوينه البيولوجي! لماذا نصر على أن نشابه بعضنا في أفكارنا وانفعالاتنا وتوجهاتنا في الحياة!. ختاما تطالعنا البحوث أن الحيوانات تملك قدرات عقلية وذكاء ما ولها لغتها الخاصة وأسلوب تواصل معين بين أفرادها. اذن ما الذي يجعل الحيوانات تختلف عنا؟ أعتقد ربما أن الانسان يملك القدرة على أن يعي ذاته ويقف خارجها ويحاكمها ويتأمل تاريخها وما قد يكون مستقبلها. هو ببساطة يعرف الحدود بين "الأنا" والعالم من حوله. لذلك لا بد أن نترك "الأنا" هذه تنفصل ولا تمتزج بغيرها وتتلاشى، لنثق قليلا بها ونمنحها على الأقل القدر المعقول من الحرية والاستقلالية، صدقوني عندها ستكون قادرة على أن ُتحدث الكثير في نفسها وفي العالم من حولها!!. *قسم علم النفس "علم نفس اجتماعي" جامعة الملك سعود