قد يعتقد البعض أن تحرر الفنون من قيود القواعد الكلاسيكية الصارمة " فنون عصر النهضة الإيطالية من القرن الخامس الى القرن الثامن عشر" وهي الفنون التي تحاكي الطبيعة وتنقلها حرفيا وكأنها صورة ضوئية من شدة واقعيتها ودقة النسب والقواعد الأكاديمية والمنظورات التي تطابق تماما الواقع أنه بدأ هذا التحرر مع بداية ظهور الاتجاه الرومانتيكي واهتمام الفنانين في رسم المناظر الطبيعية بأضواء وضبابية وألوان صارخة فتبدو أمام المشاهد وكأنه ينظر الى عالم من الأطياف المبهجة التي يغلفها البهجة والغموض معا، وكان من رواد هذا الاتجاه الفنانون البريطانيون أمثال "جون كونستابل 1776-1836" و "وليام تيرنروجوزيف ميلارد 1775-1851" وكانت لوحاتهم انطلاقة وتمهيدا للنزعة الفنية التأثيرية أو الانطباعية " Impressionist" والتي بنيت على حملة شبابية ثورية فنية في القرن التاسع عشر بهدف تربية الذوق العام والتحرر من الأساليب التقليدية السابقة في الفن. ولكن المتابع لتاريخ الفن العام يجد أن نهضة الفن الحديث والتمرد إذا صح التعبير على الأساليب الصارمة في قواعد ومنظورات الفنون يعود الى تاريخ ظهور فن الباروك والركوكو، ولكي نعرف هذين الاتجاهين للقارئ فنبدأ بفن الباروك "1600-1750 Baroque " وهو رؤية فنية جديدة على الكلاسيكية ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي انطلقت من إيطاليا وسرعان ما انتشرت في بلدان أوروبا المختلفة، وكلمة باروك أصلها كلمة برتغالية ترجمها الفرنسيون الى أنها تعنى اللؤلؤة غير المنتظمة الشكل أي انها تختلف عن الأشكال المعتادة العادية بحيث لا يكون لها محور دوران والمعروفة باسم لؤلؤة الباروك وقد استخدم هذا المصطلح لوصف التكرار غريب الأطوار ووفرة صاخبة من التفاصيل تناقض تماما العقلانية الرصينة الواضحة في فنون عصر النهضة ومثال على ذلك تأثر المسرح والموسيقى أيضا بهذا الفن فقد عرضت موسيقى في دار أوبرا بفرنسا تفتقر الى لحن متماسك، وكانت الموسيقى متنافرة بين الصخب والهدوء ووصفها ناقد بصحيفة "ميركيور الفرنسية" في مايو من عام 1734 م بأنها تنتمي الى فن الباروك بمتعاقداته الديناميكية. كان من رواد فن الباروك الذين انتموا في الأساس الى الاتجاه الكلاسيكي أمثال جارفيجيو " Caravaggio "و"بيتر بول روبنس" و " نيكول بوسيني و " مايكل أنجلو" و" وجاكوب بونترمو" والفنان العبقري جاك لوي ديفيس ونلمسها في لوحته المشهورة "قسم الأخوة هورس" ومئات آخرين من جميع دول أوروبا المختلفة التي اتسمت لوحاتهم باستقلالها في الإدراك والتعبير وإبراز الضوء والظل بهدف إضافة لمسات شعرية وتفكيك اللون الى قيم مثيرة لعبت دورا حاسما في رؤية المشاهد الذي يبهره الإدراك الحي للمعاني التي تثير الدهشة والتأمل في نظر الرائي وكأنه يقرأ قصة في كتاب بليغ المعاني. وتلا ظهور الباروك فن الركوكو " Rococo art " في فرنسا في بداية القرن الثامن عشر الميلادي وتتميز لوحة الركوكو بعرض مشاهد شاعرية ومواضيع شبابية وترفيهية وتسجيل الطبيعة بحس مرهف بألوان ناعمة وخطوط متعرجة، وكلمة ركوكو مشتقة من كلمة فرنسية هي" rocaille " وتعنى الصخور أو الأنقاض باللغة العربية وربما كان القصد منها زخرفة الكهوف أو الفنون الزخرفية القديمة إذ اهتمت هذه النزعة الفنية بإضافة التفاصيل الزخرفية الدقيقة في اللوحات وانتشرت في فنون الديكور للمنشأة المعمارية وتصاميم الأثاث المنزلي وغيرها من فنون، ويعد الفنان الفرنسي "أنطوان واتو 1684-1721" الذي عاش قريبا من الحدود الفنلندية وتأثر بمشاهدة حياتهم اليومية التي كانت رائجة حينذاك في فنلندا وهولندا والمعروفة بإقامة احتفالات شعبية في أحضان الطبيعة ومشاهدة شخصيات يرتدون ملابس أنيقة تجمعوا في مساحات خارجية وتبادلوا المجاملات والاستمتاع بالموسيقي مما دفع واتو لرسم هذا الإحساس بدقة بما يحتوي عليه الواقع من جماليات زخارف ومجسمات وملابس أبهرت مشاعره الحسية والبصرية. ونأتي هنا الى محور هام في الاعتقاد السائد لدى الأغلبية بأن انطلاق الفن الحديث كان عند بداية النزعة التأثيرية وأن مفاهيم أو فنون عصر النهضة الأوربية تنتمي الى الكلاسيكية الصارمة فقط بينما في حقيقة الأمر من يبحث جيدا في تاريخ الفن يجد ظهور اتجاهات فنية أخرى في هذا العهد تحديدا مما يؤكد أن أقرب مثال على التغير السريع والمتتابع للفنون منذ نشأتها الى وقتنا الحالي تذكرنا بنظرية الفيلسوف الإغريقي "هرقليطس" تلك النظرية الفلسفية التي تبحث عن التغير والصيرورة والتي عبر عنها بقوله:أنت لا تنزل في النهر الواحد مرتين في مكان واحد، فمياه الأنهار دائمة التجدد والانسياب. وصدق هرقليطس فيما نلمسه حاليا ونخص منها محليا الاتجاهات الفنية الدائمة في التغير والمسميات حتى ان البعض منها قد يحير العلماء في وضع مسميات لها وهكذا الفن مثل نهر هرقليطس. روبنز وفن الركوكو من فنون الركوكو