منّذ بداية الفن والموسيقى في المملكة والمسرح الغنائي يعتبر شريكاً رئيسياً في بناء المجتمع وداعماً في كل الاحتفالات الشعبية. كان التلفزيون الرسمي ينظم حفلات ويستضيف مطربين سعوديين في أمسيات غنائية كبيرة، إضافة إلى الأندية الرياضية التي كان مسموحاً لها بأن تنظم الحفلات الغنائية لكبار النجوم السعوديين والخليجيين والعرب، ويشهد التاريخ القريب -خاصة في عقد الثمانينيات الميلادية- على حفلات شهيرة نظمتها الأندية في مختلف مناطق المملكة أحياها طلال مداح ومحمد عبده وفهد بن سعيد وسلامة العبدالله وسعد جمعة وغيرهم من فناني الوطن، إلى جانب النجوم العرب، في أمسيات فنية جميلة لايزال الجمهور السعودي يتذكرها بحنين كبير ويتمنى عودتها. غابت بلا سبب واضح.. وعودتها باتت ضرورية بعد تأسيس هيئة الترفيه كانت مدن المملكة حتى نهاية الثمانينيات تعيش حراكاً فنياً رائعاً، وكان الجمهور السعودي يجد أمامه خيارات ترفيهية متنوعة تلبي احتياجه، لكن ذلك توقف مع بداية التسعينيات دون سبب واضح، وكان آخر حفلات غنائية مفتوحة في مدينة الرياض -مثلاً- عام 1992 في الجنادرية وقد غنى حينها طلال مداح وخالد عبدالرحمن والموسيقار المصري الكبير محمد الموجي، أما في بقية المدن فقد أحجمت الأندية الرياضية عن تنظيم الحفلات، واقتصر الحراك الغنائي على مهرجانين فقط؛ الأول في مسرح المفتاحة في أبها، والثاني حفلات صيف جدة. حتى توقف الاثنان قبل سنوات ودخلت الحركة الفنية السعودية في حالة موات حادة، وهرب الفنانون ومعهم جمهورهم إلى عواصم خليجية حملت -بذكاء- راية الحفلات وتخصصت في تنظيم أمسيات لفنانين سعوديين يحضرها جمهور سعودي. كانت الأندية الرياضية تمارس فعلياً دورها ال"رياضي ثقافي اجتماعي" فلم تكن تهتم فقط بالألعاب الرياضية بل كانت منصة لترفيه المجتمع ودعمه ثقافياً من خلال الحفلات التي نظمتها في ذلك الوقت، ويتذكر المخضرمون أن نادي الهلال قدم أولى حفلاته في نجد بداية السبعينيات الميلادية بمشاركة من سلامة العبدالله وبشير شنان ومسفر القثامي. كان المجتمع حينها منفتحاً ويريد أن يتطور سريعاً فأصبح الهّم أكبر من ذلك من خلال الحفلات التي تقيمها جمعيات الثقافة والفنون ومسرح الإذاعة والتلفزيون تدعمها الأندية الرياضية التي تولت إسعاد الناس من خلال ما تقدمه من حفلات موسيقية. حتى في عقد الثمانينيات الذي يوصف عادة بأنه يمثل بداية الصحوة، استمرت الأندية في ممارسة نهجها الثقافي، وبنشاط كثيف ولافت، وقدمت حفلات فنية كبيرة، احتوت على غناء وموسيقى ومشاهد فكاهية يقدمها نجوم الدراما، فكانت بهذا التنوع الإبداعي مناسبات ترفيهية بامتياز. حالة المجتمع في ذلك الوقت كانت تزخر بنشاط كبير في الأدب والثقافة ومختلف أنواع الفنون، وكان المطربون المشاركون في حفلات الأندية يأتون من كل مكان، حتى من المحافظات الصغيرة البعيدة، في صورة حضارية رائعة تؤمن بأن الفن جزء رئيس في علاقة الإنسان بالحياة وبناء الوعي والفكر والحضارة. في حفل نادي الطائي بعد صعوده للدرجة الممتازة -1405- شارك محمد عبده وسلامة العبدالله وأحمد فتحي من اليمن، وسعد جمعة وراشد الماجد في بداية ظهوره، إضافة إلى فناني مدينة حائل فهد عبدالمحسن والمعتزل عبدالله السالم وعلي المبارك والممثلين محمد العلي وبكر الشدي "رحمهما الله" وعلي إبراهيم ومحمد الكنهل وإبراهيم الحوشان ومقلد الأصوات راشد السكران. توليفة رائعة تعلق بها الناس بالفنون وجعلتهم يكتظون في مدرجات المركز الرياضي في حائل رغم ارتفاع وغلاء أسعار التذاكر حينها حيث كانت الممتازة ب"500" ريال والمنصة ب"300" ريال والأولى بمائة ريال. منّذ عام 1986م بدأت الحفلات تتقلص في منطقة الرياض وما جاورها، كانت حفلة نادي النصر الذي تغنى فيها الراحل فهد بن سعيد وعبدالرحمن النخيلان آخرها - 1988- بعدها لم تظهر أي حفلة رسمية يتعرف فيها الجمهور على نجوم الغناء عن قرب إلا في مناسبات نادرة، مثل حفلات مهرجان الجنادرية 1992، وبعضهم لم يشاهد نجومه إلا في حفلات خاصة أو عبر شاشات التلفزيون. وانتهت عقود من النشاط الفني في الطائفوجدة والشرقية مروراً بالرياض منذ الستينيات الميلادية، في مسرح التلفزيون وغيره من المنصات الرسمية، في حفلات لم تقتصر على الفنانين السعوديين وحسب بل شارك فيها مجموعة من نجوم الفن على المستوى العربي مثل فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ وغيرهم الذين كانوا يأتون إلى المملكة لتقديم حفلاتهم بشكل مستمر. في تلك الأزمنة الجميلة، كانت الحفلات تنتشر وتتوسع، كان كبار النجوم السعوديين والعرب متواجدين بشكل دائم أمام جمهور كبير. كان الذوق العام في أفضل حالاته ويجد رافداً له من الأدب والثقافة الفنية. هذا الاندماج بين الفن والمجتمع تلاشى مرة بعد مرة إلى أن توقفت الحفلات والمهرجانات تماماً. وتم إلغاء المكان الوحيد والصحيح لبناء ثقافة فنية راقية، ألا وهو المسرح الغنائي، الذي يعد الركيزة الأساسية في الصناعة الفنية في كل مكان في العالم، وبسبب إلغاء هذه الوسيلة انهارت الأغنية السعودية تماماً وأصبح المتحكم فيها والذي يرسم ذوقها هو المنتج الذي لا يعبر بالضرورة عن مزاج الجمهور السعودي ولا عن ذوقه، ولذلك رأينا كيف تحولت أغنيتنا السعودية إلى مسخ لا يشبهنا ولا يقترب من مزاجنا ولا من ذائقتنا. لقد تم إقصاء الجمهور عن دائرة الإنتاج الغنائي فأصبح الفنان في عزلة لا يعرف ما الذي يطرب جمهوره. تاريخنا القريب يقدم لنا نماذج كثيرة لحفلات كبيرة شهيرة، مثل حفل نادي الهلال بعد توقف المسرح في التلفزيون عام 1980م والذي شارك فيه المونولوجيست عبدالعزيز الهزاع والمطرب طلال مداح ومحمد عبده وحمدي سعد وفناني الخليج، ثم حفلة النصر عام 1981م مع طلال مداح ومحمد عبده والعراقي سعدون جابر، وحفل نادي الرياض 1983م في أمسية بطلها المطرب الراحل فهد بن سعيد وامتلأت بالجمهور، وكانت نقطة تحول في الحفلات حيث فرضت على الأندية الاستعانة بالفنانين الشعبيين، ثم حفلة الهلال 1985م وقدمها عبدالله الرويشد وسعد جمعة وسعدون جابر وغيرهم من الفنانين، تبعه النصر بإقامة حفلة غنائية شارك فيها الفنان فهد بن سعيد. وتوسع انتشار الحفلات الغنائية، حتى مع بداية الصحوة، لتصل للخرج بحفل أسطوري نظمه نادي الكوكب عام 1985 وأحياه كل من فهد بن سعيد وحمد الطيار وسلامة العبدالله ورابح صقر وعبدالرب إدريس وعبدالمجيد عبدالله وعبدالرحمن النخيلان. وقد شجع هذا الحراك أمانة الرياض لتطلق حينها الليالي الغنائية في الصالات الرياضية 1985م، وشارك فيها العديد من النجوم على رأسهم طلال مداح بعد عودته من الخارج ومحمد عبده وسلامة العبدالله وسعد إبراهيم وعبادي الجوهر وغيرهم وكانت من تقديم الفنان الراحل بكر الشدي، وقد تم في حينها تنظيم مهرجان الأسبوع الثقافي المغربي على مسرح المربع بالرياض وقدمت فيه أحلى السهرات الغنائية بقيادة المطرب الكبير عبدالوهاب الدوكالي، وأسهمت هذه الحفلات بتكوين ذاكرة فنية اجتماعية لايزال صداها حاضراً حتى الآن، وكانت أغلب الجهات الرسمية المعنية بالثقافة تتنافس على إحياء الحفلات الفنية، حتى التلفزيون السعودي قدم برامج جماهيرية مشابهة للحفلات الغنائية بحضور الفنانين والجمهور مثل برنامج "تحت الأضواء" وغيره والذي كان شبيهاً بما كان يقدم في مسرح الإذاعة والتلفزيون بداية انطلاقة البث، وعزز مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة في بداياته هذه الرؤية الثقافية الفنية، وأقام عدة حفلات قدمها مجموعة من الفنانين مثل راشد الماجد وطلال مداح ومحمد عبده وغيرهم. وبعد حفل الجامعة والذي أقيم بمناسبة افتتاح بطولة الخليج في العام 1988م اختتمت موجة الأحداث الفنية التي شهدتها منطقة الرياض وكونت مركزاً مرموقاً في علاقة الناس بالموسيقى، حيث انتهت بلا رجعة منذ ذلك الحين، لكنها انتقلت إلى مناطق ومحافظات أخرى تحت تأثيرات فكرية جديدة لم تستمر طويلاً. استقبل مهرجان المفتاحة في مدينة أبها الحفلات الغنائية منذ 1998 وحتى 2007 وأصبح من أهم المهرجانات الغنائية على مستوى العالم العربي، وتزامن معه مهرجان جدة غير الذي استمر من 2002 حتى 2009. حراك فني استثنائي خلق نافذة اتصال مهمة للفنان السعودي، ومنح الجمهور أمسيات ترفيهية وثقافية لا تنسى، يتمنى الجميع عودتها خاصة مع تأسيس هيئة الترفيه التي ستجد أمامها تاريخاً فنياً كبيراً زاخراً بالحفلات الغنائية التي شارك فيها جميع نجوم الأغنية السعودية، وسيكون عليها إعادة الحفلات الغنائية من جديد، باعتبار هذه الحفلات من أهم منافذ الترفيه التي تجبر الجمهور السعودي حالياً على قطع آلاف الكيلومترات وملاحقة مطربيه المفضلين في عواصم خليجية وعربية. الموسيقار محمد الموجي غنى في مدينة الرياض مسرح المفتاحة آخر محطات الفنان السعودي الحفلات استقطبت جميع نجوم الأغنية