القراءة الأولية لحادثة نيس الفرنسية أن مواقف الدول السياسية ضد رفض العنف والتطرف والإرهاب، ومواجهة الجماعات والتنظيمات التي تقف خلفها، وتدعمها، وتحرّض عليها، بل حتى الموقف من الدول الراعية للإرهاب، وتمويله، وحماية رموزه؛ كل ذلك الموقف السياسي المعلن نتيجته مواجهة صريحة مع العناصر الإرهابية والمنظمات والدول الداعمة لها، وبالتالي توقع حدوث أعمال إرهابية على أراضي تلك الدولة، وتجريدها من امتيازاتها الأمنية والسياحية والاقتصادية، وتهديد أيضاً لمصالحها في مواقع أخرى. هذا بالفعل ما حدث لفرنسا، وقبلها المملكة وتركيا والأردن ومصر ودول أخرى واجهت الإرهاب والدول الراعية له، من خلال عمليات استباقية، وكشف مخططات، وتعرية أحزاب وشخصيات، واتخاذ مبادرات وقوائم سوداء، وأيضاً مشاركة سياسية فاعلة ومؤثرة في تشكيل المواقف الدولية ضد أحداث المنطقة، وتطوراتها، خاصة التدخل الإيراني في الشأن العربي، واحتلاله المعلن لأربع عواصم عربية (اليمن، العراق، سورية، لبنان). فرنسا «الشيطان الأصغر» -الذي أطلقه عليها الخميني- تدفع ثمناً لمواقفها السياسية الواضحة ضد الإرهاب والدول الراعية له، وتتحمّل في سبيل ذلك حجم تهديدات غير مسبوق لدولة أوروبية، بل تعيش حالة طوارئ منذ حادثة باريس في نوفمبر 2015، وقبلها حادثة صحيفة شارلي إيبدو، واليوم في نيس التي سقط فيها 84 قتيلاً و50 جريحاً في حالات خطرة، حيث لا تزال فرنسا مستهدفة، وستبقى كذلك؛ لأن كل عمل إرهابي في فرنسا يسبقه موقف فرنسي مناوئ لإيران، وهذه حقيقة، فلا يمكن أن تستضيف باريس مؤتمر المعارضة الإيرانية ويمرّ مرور الكرام، وفعلاً دفعت إيران أحد عناصرها الرخيصة لارتكاب مجزرة في حق الإنسانية، والحرية، وقبل ذلك دفعت عناصرها المجرمة من «داعش» ليقتل الأبرياء في مطار إسطنبول، ومثل ذلك رجال الأمن في المملكة، والاقتراب من المسجد النبوي، وكلها عمليات إرهابية تقف خلفها إيران ومليشياتها وتنظيماتها وأحزابها الإرهابية، ولذا لا يمكن أن نقضي على «داعش» قبل إخراج إيران من العراق وسورية، ولا يمكن أن نقود تحالفاً ضد الإرهاب أو «داعش» تحديداً وإيران وحرسها الثوري وحزب الشيطان لا يزالون يقاتلون على الأرض، وينشرون سمّ الطائفية بيننا، ويحملون رايات وشعارات وصوراً مستفزة لإرهابيين قتله. لا نريد أن نضخم إيران، أو نمنحها دوراً أكبر منها، ومن قدراتها، وحتى مواقفها، ولكن التعاطف الغربي المخجل مع مشروعها الطائفي، وتأييده لتدخلها السافر في الدول العربية وحربها الظالمة هناك؛ حرّك جيلاً من الشباب يؤمن بفكرة الانتقام من الغرب المتخاذل، وبالتالي أصبحت إيران تلعب دوراً مزدوجاً في تجنيد الشباب العربي، من خلال الانتقام من بلدانهم وحكوماتهم باسم الدين، وأيضاً الانتقام من الغرب الذي صمت على الجرائم في بلدانهم باسم السياسة، والمستفيد في كلا الحالتين هي إيران التي تريد أن تصل إلى هدف أكبر بإعادة إمبراطورية فارس والهيمنة على دول المنطقة. الإرهاب الذي ندينه ونستنكره ونلاحق مرتكبيه ونستنفر في التصدي له ومحاربته، لا يزال يضرب بقوة في عالم مخيف، ويثير معه مخاوف أكبر لدول وبشر، ويحبس أنفاسهما عند لحظات التجمهر في مناسبة فرح أو ترفيه أو حتى جموعاً في أداء عبادة، حيث يبقى الهاجس الأمني كبيراً لما هو متوقع، ولكن المفاجأة أن يحضر الإرهاب بحدث لا تتوقعه، فلا يمكن أن تتخيّل رجلاً تافهاً رخيصاً يقود شاحنة ليدهس الأبرياء عنوة بلا ضمير إنساني، ويمضي إلى حيث مشاهدة الدماء والأشلاء، وسماع الصيحات التي تبحث عن مكان آمن.. هؤلاء هم أعداء الإنسانية، ووجودهم بيننا أخطر من أي شيء آخر؛ لأنهم يريدون أن يقتلوا، ويظهروا على المسرح على أنهم قتلة، ويدفع الآخرون الثمن، بل الإسلام يدفع ثمناً أكبر في تشويه صورته الإنسانية المتسامحة التي تمتلئ رحمة وعطفاً وإحساساً بالآخر أياً كانت ديانته أو مذهبه.