٭٭ هل جربت مثل صاحبي ان تسير بملف ميت.. وكيف لا يموت وكل مادته هو انت منذ لحظة ميلادك.. حتى لحظة مغادرتك للحارة.. او لنقل الى ان انتقلت من مدينة الطائف المآنوس. بين اعداد ملفك.. وادخاله للارشيف للحفظ كشيء من الماضي الذي انقطع كل اتصاله بحياتك الراهنة.. هناك محطات شقاوات طفولتك ومغامرات طيشك واحوالك المتقلبة.. وتوقعات مستقبل حياتك التي ربما تصل في لحظات غضب الى القول: «الله ياخذه ويريح اهله منه». طبعاً اذا تزوجت ولم تغادر الحارة او على الاقل لم تغادر المدينة.. فإنك تكون قد حكمت على الملف بالبقاء حياً خارج اطار ذاكرتك.. في حماية اولئك الذين اشتركوا في صنع ذكرياتك.. لانهم يمثلون في ذاكرتك بقدر مثولك لديهم. ٭٭ قال صاحبي في البدء مات الملف جزئياً بموت كثير من عجائز الحارة اللواتي كن يتواجدن في احداث الحارة ويتنقلن بين بيوتها يسمعن شكاوى امهاتنا ويتابعن كل الاحوال برصد دقيق.. من مات وكيف مات.. ومن ولد ومتى ولد.. ومن اللواتي ارضعنه ومن هم اخوانه واخواته بالرضاع.. وكيف سارت الاحوال المعيشية وكيف انتهت الخلافات التي طرأت.. واين ذهب من تخرج من الثانوية.. ومن خطب او تزوج.. ومن نجح او رسب.. ثم من الذي اقفل ملفه نهائياً منذ ان غادر قبل سنوات وانقطعت اخباره. ٭٭ اكتمل موت الملف - يؤكد صاحبي - لانه لم يعد يعيش فيه.. ليس للأمر علاقة بالمكان والزمان.. لكنه يتصل بالإبداع والفن. قلت دون فضول: ٭ كيف لم تعد تعيش في ملف ماضي حياتك..؟! قال ساخراً: - كتبته..!! ولأنني لم افهم مغزى الكلام اضاف قائلاً: - تسقط ماكان من حياتك.. بإعادة احيائه خارج هذه الحياة التي تعيشها.. تمنحه حياة مستقلة عن حياتك التي اعدت بناءها خلال مسيرة تطورك فأنت لا تأخذ الماضي معك.. الا بالقدر الذي يصلح لاعادته للحياة ابداعياً. فهو حين يكون مكتوباً.. ويكون قد حدث لاي احد على وجه الاطلاق.. فكل من يقرأه يجد فيه ما يشبهه وليس ما يشبه كاتبه.. تنتقل الحالة من راويها الى قارئها.. لان الراوي لا يعيد ارشفتها.. لكنه يضيف لها ويمدها بقيمة فنية وابداعية قادرة على مدها بحياة مستقلة.. ومن خلال الموهبة الابداعية يستمد المروي حياته.. ويكتسب قيمته الجمالية والفنية.. وهذا طبعاً يدفع الكاتب الى استلهام عدة حيوات ليدمجها في شخصية واحدة او ربما يستلهم حياة ثرية لشخص ما.. وينثرها على عدة حيوات.. واكثر الشخصيات ثراء - يؤكد صاحبي - هي ذلك النوع من البشر الذين يتسمون بدناءة النفس والخسة.. كمثل شخصية الاب كارمازوف عندومستويفكي.. الذي يمكن ان تستلهم من حقارة نفسه وكل تلك المسلكيات المشينة التي تملأ حياته ما يمكن ان تنثره في حيوات كثيرة فيها اقل القليل من صفاته.. لذلك اصبح في التحليل النفسي شخصية مثالية للتحليل.. كذلك كثير من مسلكياته التي جسدتها شخصيات ابنائه.. حيث يقتل على يد احدهم في نهاية الامر.. ويتهم بالقتل آخر.. بينما الثالث هو المحرض الحقيقي على القتل. ٭٭ في حالتي الامر اقل تعقيداً - يؤكد صاحبي - حيث يقتصر الامر على الحارة بطلاً وشخوصاً الافتراضيون والحيوات الحقيقية التي بينها حياتي.. والكثير الكثير من الخيال الذي يطمح لخلق نوع من العدوى التحريضية.. غير انني بعد ان اغلقت الملف الذي مات فيه كل ما استلهمته من حياتي وحيوات أخرى.. وجدته لا يصلح حتى للنشر.. فليس فيه ما هو ابداعي او فني يستحق الحياة على الورق خارج ادراج مكتبي.. لذلك اتجهت للبحث في حيوات أخرى.. مضيت اراقب حياة الآخرين علني استطيع ان استلهم منهم ما يصلح للكتابة.. او على وجه الدقة ما يمكن ان يمدني بشيء اعتبره خيطاً يقودني للوصول لنماذج تصلح للكتابة. قلت منصفاً الفهم: - لعبة خيال يعني. قال دون ان تستوقفه ملاحظتي: - الشخصية الكارمازوف الذي وجدته.. يملك من الصفات ما يسقط اي إلهامات الخيال.. فكل ما عليك هو ان تستعيد حقارات مختلف مراحل حياته حتى تجد انها حولتك الى فنان مبدع لشدة واقعية قذارتها. اما اذا انت قررت ان تتوقف عند حاضر حياته لتستلهم منه.. فسوف تجد ان التحدي الفني والابداعي يكمن في مدى قدرتك على تمويه شخصيته.. هذا قبل ان يتأكد لك بشكل قاطع ان لا مناص لك من وصفها كما هي دون زيادة او نقصان. قلت شاعراً بالملل: - الفن والابداع الحقيقي يفرض عليك ان تموه مثل هذه الشخصية بطريقة تجعل القارئ يقول: «وهل يخفى القمر»..!!.