اشيء يستفزني أكثر من هؤلاء الذين يظهرون بعد كل عملية إرهابية، وكأنهم يطيبون خاطر المجتمع.. حينما يصفون تلك العمليات بأنها عمليات يائسة، وأن هؤلاء المجرمين يتخبطون أو أنهم يحتضرون فعلا!! هؤلاء يقللون من قيمة مايحدث.. ليس لأنهم يرونه قليلا، ولا لنقص في وطنيتهم وانتمائهم لاسمح الله، وإنما لأنهم يعتقدون أنهم حينما يسمون الأشياء بأسمائها، ويصفون هذه العمليات الانتحارية بالخطيرة.. فإنما هم ينتقدون أساليب مواجهتها، أو أنهم يمنحون هؤلاء الإرهابيين نصرا لايستحقونه. لذلك هم يطيبون خاطرنا بتلك التصريحات التي توحي بأن مايفعله هؤلاء القتلة ماهو إلا عبث صبياني تافه ولاقيمة له.. وهي وجهة نظر تصلح كتكتيك.. لكن لاعلاقة لها بالواقع.. ذلك لأن الواقع يقول غير هذا تماما.. فما يواجهه الوطن هو إرهاب مؤدلج وخطير، ولا يمكن فرز عناصره بسهولة من النسيج العام لأنهم يستخدمون نفس المنطلقات الدينية ويوجهونها وفق فكرهم إلى مايريدون.. لأن الذي يقدم على عملية انتحارية.. يعلم أنه سينفق حياته فيها.. لايفعل هذا لمجرد الخصومة مع الوطن أو الحكومة أو كليهما معا، وإنما لأنه يرى أن مايفعله جزء من عقيدة، وهذا هو مكمن الخطورة!!. نحن لانواجه أناسا يختلفون معنا ويريدون أن يفرضوا مايريدون بالقوة وحسب، وإنما نواجه فكرا ظلاميا يرى أنه وحده الأحق بالحياة على هذه الأرض.. لذلك هو يكرس حضوره عبر تلك الأجساد المفخخة التي يفجرها كقرابين في كل عملية. لايجوز أن ننظر إلى هذه الأعمال الإجرامية.. كمالو أنها كانت مجرد أعمال صبيانية كما يصفها البعض، وهي تحاول أن تضرب أو هي تضرب بالفعل بعض مؤسساتنا الرسمية، لايجوز أن نقلل مما يحدث وهو الذي أدخل ولأول مرة إلى ثقافتنا اليومية المتاريس والصبات الخراسانية ونقاط التفتيش التي لم نكن نعرفها من قبل!. إنني أعتقد أن الاعتراف بحجم المشكلة وأبعادها هو الطريق الذي يقودنا إلى الحل، لذلك أنا سعيد جدا لأن الاجهزة الرسمية لم تنصت إلى هؤلاء الذين يربتون على كتفها من حين لآخر ظنا منهم أنهم يفعلون الصواب.. حيث أخذت على عاتقها مسؤولية المواجهة الحازمة لما يحدث، ولو أنني كنت ولا أزال أتمنى أن لاتقتصر المواجهة على الأداة الأمنية وحسب، وإنما يجب أن يساهم الفكر والثقافة والفن بكل أشكاله في المواجهة.. لاستدراج تلك الأفاعي من جحورها وتقويض فكرها الدموي بالتعرية.. لكن يجب قبل هذا أن نعترف أيضا أن هذا المنتج الدموي.. الذي نريد أن نجتثه بين عشية وضحاها.. كان ينمو بيننا وبرعايتنا ربما على مدى سنوات طويلة دون أن نسمح لأنفسنا بإثارة أي سؤال حوله.. كنا نزعم أننا الأكثر وسطية ونتوهمها.. في الوقت الذي يتدفق فيه التطرف بيننا في كل الاتجاهات.. بل في الوقت الذي كنا نؤسلم فيه كل شيء.. حتى الحجر أسلمناه.. منذ أن أسمينا ميناء جده ب (الإسلامي).. كما لو أننا نخرج ماسواه من موانئ البلاد من هذه الصفة!.. كل هذا كان يتم تحت اسم خدمة الإسلام. وإذا كان ثمة من ضارة نافعة كما يقول المثل.. فهو أن هذه الأحداث رغم أذيتها.. قد أسقطت ولأول مرة القناع عن الأشخاص المدعين الذين كانوا يتحدثون باسم الدين، واستبقتها فقط للنص الشرعي الصحيح، وهذا مايجعلنا أكثر تفاؤلا بقدرة أبناء هذا الوطن على تجاوز هذه المحنة.. شريطة فتح كل النوافذ والأبواب لمرور الهواء النقي والأوكسجين إلى رئتي الوطن.. فالهواء الذي يحتبس داخل الأسقف المغلقة لا بد وأن يكون عرضة للفساد والتلوث وبالتالي التسمم مهما استخدمنا معه الفلاتر والمرشحات وأجهزة التنقية. الهواء النقي المشبع بأوكسجين الحياة لاتصنعه أجهزة التكييف، وإنما هو صنيعة البيئة النظيفة المفتوحة على أجمل الحقول والحدائق!.