وكما هو واضح فإن شارون وكل أقطاب السياسة في إسرائيل توصلوا إلى قناعة أخيراً بطي صفحة غزة، ولذلك فقد بدأوا قبل أيام من انتهاء ملف الانسحاب من قطاع غزة بخلق استحقاق جديد تمثل بالدعوة لانتخابات جديدة وإلى تغيير خريطة الحزبين الرئيسيين في إسرائيل والاستعداد لمرحلة جديدة تبدأ بعد الانتخابات التشريعية الإسرائيلية المتوقعة في نهاية آذار من العام القادم، لا يختلف اثنان على أن للحملة الأمريكية على المنطقة أهدافاً كثيرة، أما وسائل تنفيذها فهي متعددة ومتدرجة وذروة ذلك الاحتلال العسكري للعراق، وبعض تجلياتها الأخرى تتمثل بالتهديد بالحرب وبالحصار وفرض العقوبات على بعض البلدان العربية والإسلامية، أما بقية أخطار الحملة فتشمل كافة الأقطار في المنطقة من خلال الضغوط والحملات الإعلامية والتشكيك. ولا يختلف اثنان كذلك على أن المخططات والمشاريع والمبادرات الأمريكية بدعوى إصلاح المنطقة وفي مقدمتها مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الواسع هي الوجه الآخر الفكري والدعائي لإعادة صياغة المنطقة وفق هذا المنظور، وإذا كانت الوسائل واضحة ومعلنة من خلال الإعلان عنها أو تطبيقها فإن الغايات أو الأهداف هي التي تحتاج إلى تأمل وتدقيق لأنها متصلة بالنوايا الخفية والسياسات المضمرة والخبيثة التي تقوم على خلط التشدد والتطرف والتعنت بالغيبيات والرؤى التوراتية، وذلك من خلال امتلاك عصابة اليمين المحافظ لسلطة القرار في الإدارة الأمريكية الحالية، وهو ما يجعل أهداف الحملة الأمريكية على منطقتنا واضحة ومكشوفة ومفضوحة، وهي وإن تكن أهدافاً كثيرة إلا أن الهدف الأول والأهم لهذه الهجمة هو إعطاء قوة دفع جديدة وزخم أكبر للمشروع الصهيوني في المنطقة، ولا يقتصر الأمر فقط على تدمير العراق وإخراجه من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي لأمد سيطول إلى ما بعد تصفية القضية الفلسطينية، كما لا يقتصر الأمر على خلق أجواء توتر في المنطقة تدفع كل بلدان المنطقة للانشغال بهمومها ومتاعبها والمحاولات الخارجية لاختراق مجتمعاتنا سياسياً وأمنياً مع توفير مظلة إعلامية فضائية بشكل خاص تنطلق بالعربية هدفها التشكيك وزعزعة الثقة وخلق حالة عبر الضغوط السياسية والتهييج الإعلامي، ولعل من أخطر النتائج هو حالة الارتداد إلى الداخل مما دفع كل قطر عربي إلى الانطواء على جراحه وهمومه، وبما يكرس عزلة وطنية لكل بلد وبالتالي تعميق عزلة الفلسطينيين الذين يعانون من أهوال المذابح والمجازر الإسرائيلية ومن ضائقة اقتصادية خانقة ومن حالة ضعف وتشتت لا تقتصر على السلطة الوطنية وانما تعصف بكل التنظيمات والمؤسسات والأطر الاجتماعية التي تعاني من الممارسات العدائية الخبيثة اليومية والتي تهدف إلى تكريس الأمر الواقع على الأرض الفلسطينية من خلال الاستفادة من الهجمة الأمريكية واستغلالها إلى أبعد مدى، كما أنها توظف عامل الزمن لصالحها، وإذا سلّمنا بالحقيقة القائمة أن الزمن يعمل لصالح إسرائيل، وهو ليس في صالح الفلسطينيين والعرب فإنه يمكن النظر إلى التطورات الدراماتيكية الأخيرة في إسرائيل باعتبارها لعبة صهيونية قديمة جديدة لكسب الوقت من خلال خلط الأوراق السياسية الداخلية وبما يفضي إلى خلط الأوراق بشأن مستقبل التسوية على المسار الفلسطيني وعلى كافة المسارات، وبما يحقق أمن إسرائيل وازدهارها على حساب أمن واستقرار المنطقة!! ولا شك أن واقعاً جديداً قد نشأ بعد 11 أيلول2001م، وبعد اندفاعة أميركا لتحطيم وتحجيم المنطقة وإعادة تشكيلها عبر الحرب الوقائية وعبر المشاريع السياسية وأبرزها مشروع الشرق الأوسط الكبير والواسع والذي يحقق طموحات إسرائيل ويلبي التطلعات الجوهرية للاستراتيجية الصهيونية. وفي التفاصيل فإنه من المهم ملاحظة التطورات التي حدثت في الحزبين الكبيرين في إسرائيل الليكود والعمل في الأيام الأخيرة، وقد لا تكون مفاجأة أن يستقيل شارون من حزب الليكود لأن ذلك سبقه مقدمات، لكن المفاجأة هي أن يطرح شارون نفسه كرمز للتوجّه الليبرالي في إسرائيل، وأن يتخذ من نجاحه في الانسحاب من غزة ركيزة للتحول الظاهري والدعائي نحو الاعتدال السياسي بالإعلان عن تمسكه بتنفيذ خريطة الطريق واعتماد النهج الليبرالي!! أما في معسكر حزب العمل فإن النجاح الذي حققه الزعيم الجديد للحزب عمير بيريتس مثّل تطوراً مهماً في المعادلة السياسية الإسرائيلية حيث يطرح بيريتس نفسه كرمز ديمقراطي اجتماعي قضيته الأولى هي مسألة الفقر وتحقيق التوازن الاجتماعي وهو يمثل الأغلبية المسحوقة من اليهود الشرقيين الذين نجحوا في إيصاله زعيماً لحزب العمل الذي ظلت قيادته حصراً على النخبة من يهود الغرب، أما موقف بيريتس السياسي فهو أقرب إلى التوجهات اليسارية، وحين يعلن أن الاحتلال هو لا أخلاقي فإن ذلك يعني أن شارون لا يستطيع أن يزايد عليه أو يقف على يمينه وبما يعني بشكل واضح أن هنالك مشهداً مسرحياً جديداً وضد المشهد الراهن يوحي وكأن هنالك توجهاً لدى القيادات السياسية الإسرائيلية نحو الاعتدال وأن ذلك ربما يوحي أيضاً بأنه يعكس مزاجاً شعبياً إسرائيلياً.. ولكن ذلك غير حقيقي وهو ليس أكثر من دعائي لتحسين صورة إسرائيل، بينما الصورة الحقيقية هي التي ستعكسها الانتخابات والتي ستفضي حتماً إلى المزيد من التطرف والتشدد.. ومن الواضح أن التبادل في المشهد الإسرائيلي السياسي بما في ذلك تقديم موعد الانتخابات يحقق كسب الوقت ويؤسس للخطوة الحاسمة وهي تصفية القضية الفلسطينية باستكمال الانسحاب الأحادي الجانب من أجزاء من الضفة الغربية وتمهيداً لذلك. وبعد ثلاثة أشهر من الانسحاب من غزة، فقد تم التوصل إلى البدء بتنفيذ الاتفاق بشأن مرور الفلسطينيين من نقطة عبور رفح من وإلى مصر، مع وجود معبر آخر لغير الفلسطينيين والبضائع تديره إسرائيل بشكل مباشر!! ولا نريد أن ندخل في النقاش حول انتقاص السيادة الفلسطينية التي أشار لها الرئيس الفلسطيني، فهناك شكلياً تدويل لمعابر قطاع غزة، ولكن هنالك عملياً إشراف إسرائيلي وضبط للحركة على الحدود من قبل إسرائيل يمنحها الحق في وضع القيود على خروج ودخول الفلسطينيين وغيرهم من القطاع، رغم أن إسرائيل عندها ثقة كبيرة بتعاون رجال الأمن من أوروبيين وفلسطينيين ومصريين في التوصل إلى نتيجة دون رقابتها المركزة... ولكن في كل الأحوال لا فائدة اليوم من مناقشة الأمر أو تقييمه ولذلك لا بد من التذكير بتداعيات الحدث ابتداء من الإعلان في مطلع العام الماضي بأن شارون ينوي الانسحاب من قطاع غزة، وصولاً إلى صيف العام نفسه عندما حدد شارون شهر حزيران من هذا العام كموعد للانسحاب إلى أن تحقق ذلك في نهاية آب الماضي واختتم بالاتفاق على المعابر في نهاية تشرين الثاني من هذا العام، وهكذا كانت عملية كسب الوقت. والمماطلة هي أبرز أهداف استراتيجية شارون في المرحلة التي اختتمت بتنظيم المرور عبر نقاط الحدود مع مصر...!! وكما هو واضح فإن شارون وكل أقطاب السياسة في إسرائيل توصلوا إلى قناعة أخيراً بطي صفحة غزة، ولذلك فقد بدأوا قبل أيام من انتهاء ملف الانسحاب من قطاع غزة بخلق استحقاق جديد تمثل بالدعوة لانتخابات جديدة وإلى تغيير خريطة الحزبين الرئيسيين في إسرائيل والاستعداد لمرحلة جديدة تبدأ بعد الانتخابات التشريعية الإسرائيلية المتوقعة في نهاية آذار من العام القادم، وهكذا فإن صيف العام القادم سيشهد خريطة سياسية جديدة في إسرائيل وحكومة جديدة وإلى أن يتبلور وضع جديد ويستقر في إسرائيل فإن المؤكد أن الجزء الأكبر والأهم من الجدار العازل سيكون قد تم إنجازه مما يسمح بالحديث أو إطلاق وعود بشأن الانسحاب الإسرائيلي من مدن وقرى ومناطق في الضفة الغربية، وقياساً على ما تم في غزة كانت بروفة صغيرة للتصفية الكبيرة فإن إسرائيل ستطلق على لسان شارون أو نتنياهو أو أي زعيم يرأس حكومة إسرائيل في المرحلة القادمة بعد الانتخابات وعداً في صيف العام القادم 2006 لتنفيذ انسحاب في صيف العام 2007، وهذا الانسحاب إذا تحقق في نهاية 2007م أو بعد ذلك بسنوات فإنه سيكون قراراً أحادياً وله مخرجات سلبية ومأساة ستلقى في وجه السلطة الفلسطينية ويترتب عليها ما هو أبعد من حل مشكلة الحدود والمعابر وحركة المرور، فالكونفدرالية التي تسعى إسرائيل وأمريكا لفرضها ستعني تجاوز مشكلة الحدود واللاجئين والقدس والسياسة وستكون كل متطلبات الحل النهائي مدغمة في هذه الكونفدرالية أو الفدرالية أو أية صيغة مفروضة!!