هل كان حقاً فوز جماعة الإخوان المسلمين في مصر بما يعادل 20٪ من مقاعد البرلمان المصري في المرحلة الأولى مفاجئاً، وهل ما حصدته الجماعة في المرحلة الثانية (13 مقعداً مقابل 6 مقاعد للحزب الوطني) نتيجة فاقت كل توقع؟ أحياناً تبدو مثل هذه الأسئلة ساذجة وكأن باعثيها لا يقرؤون مشهداً عربياً، يمتد من المحيط إلى الخليج - مع كل تلك الاختلافات النسبية التي تصبغ الأنظمة والمجتمعات العربية - إلا أن الثابت أن الإسلام السياسي لم يفقد زخمه ولم يتراجع مؤيدوه ولم يكن أمام كل تلك الفعاليات السياسية في المنطقة أو التيارات الثقافية سوى الأكثر تنظيماً والأكثر قدرة على الاستحواذ على ورقة ناخب عندما تتهيأ الفرصة الكاملة لممارسة عملية انتخابية لا تخضع للتأثير لا المباشر أو التوجيه عن بعد للتحكم في نتائج صندوق اقتراع. من الخليج إلى المحيط.. تظهر تلك المؤشرات التي يجب أن تُقرأ بعقل محايد يحاول أن يبحث في الأسباب التي جعلت الإسلام السياسي اليوم الأكثر قدرة على التأثير في نتائج صندوق اقتراع، مهما كانت تلك النتائج اليوم جزئية أو محسوبة، إلا انها تبقى نتائج تعطي مؤشرات قوية على نفوذ تيارات وقوة توجه وقناعات فكرية وأيضاً فقدان للثقة بتيارات المعارضة التي يمكن أن تقدم نفسها للجماهير بديلاً عن ممثلي الأحزاب الحاكمة أو مرشحي النظام المفضلين. كما أن تلك القراءة يجب أن تتجاوز مسألة بحث الأسباب إلى مسألة استيعاب حالة تخرجنا من واقع بلا خيارات، كما انها يجب أن تستوعب إسلاماً سياسياً قادماً يمكن أن يتعامل مع الديموقراطية كمشروع لا كواجهة للوصول إلى سدة قرار. من العراق إلى المغرب يبدو الإسلام السياسي، هو الخيار الأكثر شعبية، وهو الموجة الصاعدة التي لم تحل أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 أو الحرب على الإرهاب دونها، بل ها هي تبعث علاقة يقرؤها الغرب جيداً بين قوة الإسلام السياسي والقبول بنتائج صندوق اقتراع، وحتى في المجتمعات العربية التي لا تتوفر فيها أي تنظيمات سياسية لها صفة الأحزاب كما في دول الخليج العربي.. يظهر تيار الإسلام السياسي الأكثر قدرة على الاستحواذ على ورقة ناخب، حيث تتراجع النخب الليبرالية والتيارات الوطنية بمختلف توجهاتها عن مشهد معارضة قادرة على أخذ حصتها.. ناهيك أن تكون قادرة على حسم خيارات شارع عربي لم يعد يعترف لها بقدرتها على تمثيله. هذا المشهد يزعج كثيراً من ليبرالي العالم العربي الذين يحلمون بالتحول الديموقراطي، إذ يصبح شهادة ليست في صالح مشروعهم.. وربما هذا السبب يفسر الفتور الذي انتاب البعض منهم وهو يعلق على نتائج الجولة الأولى من انتخابات البرلمان المصري الذي حقق فيها الإخوان المسلمون 20٪ من مقاعد البرلمان.. ولهذا لم يتردد آخرون من وصف حالهم مع تلك النتائج بأنها اشبه بالمستجير من رمضاء الحزب الوطني الحاكم بنار الإخوان المسلمين. ليس المجال هنا بحث الأسباب والخلفيات التي تقدم إسلاماً سياسياً اليوم إلى واجهة صندوق اقتراع، فتلك لها خلفية أوسع بكثير من حيز مقال عابر، لكن يمكن الإشارة إلى بعض تلك الأسباب أو العناصر الأكثر أهمية، أولها أن المحيط العربي والإسلامي يدين لثقافة إسلامية تجعله بالمجمل يثق بتلك التوجهات والشعارات التي توظفها جماعات الإسلام السياسي، الأمر الآخر الفشل الذريع في أنظمة الحكم القائمة عن مواجهة مشكلات تلك المجتمعات والأداء الأكثر من متواضع في مشروع التنمية المتعثرة مما راكم مشكلات الفقر وانعدام الأمل وتواضع المنجز وانتشار الفساد بالإضافة للسبب الأكثر أهمية وهو الاستبداد السياسي الذي قضى على تجارب ليبرالية وديموقراطية وليدة، وعمل خلال نصف قرن على محو أي تعددية قادرة على صياغة مشروع.. إضافة إلى معارضات اليوم من ليبرالية وسواها لا تعدو أن تكون واجهات ودكاكين حزبية أما انها تتقوت على ماض لن يعود أو انها أصلاً خُلقت من أجل تشتيت صوت معارضة حقيقية وانهاكها. الموضوع الأكثر أهمية هو كيف يمكن أن يوظف هذا التحول لصالح مشروع اوسع بكثير من قضية حسابات بين فرقاء، ففي الوقت الذي نعيش فيه مماحكات التفسيرات والتفسيرات المضادة لاقتطاع نسبة ولو جزئية في نتائج صندوق اقتراع، يبدي الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدةالأمريكية تشجيعهما وقبولهما بصيغة إسلام سياسي يمكن أن يشارك في الحياة السياسية في المنطقة ناهيك أن تكون دمقرطة العالم العربي والإسلامي قابلة للتحقيق بالمراهنة على الإسلام السياسي، المهم أن يخضع هذا المشروع لمفاهيم الديموقراطية تحت مظلة التعددية وحقوق الإنسان.. ولا يعادي الغرب أو يضر بمصالحه.. بل ربما نذهب إلى أبعد من هذا، حيث يبدو الإسلام السياسي هو الخيار الذي يُدرّس في الغرب باعتباره الذي يملك القاعدة الشعبية والجماهيرية الكافية لإدارة مشروع.. فالبراجماتية الغربية قادرة على صياغة اجندتها وفق قراءتها للمشهد السياسي وضمن توازنات مرحلة وضمن أولويات تعمل من أجلها.. ولن تخيفها حتى تلك الصيحات التي تحذرها من هذا البديل، طالما كانت قادرة على التعامل معه. التجربة العراقية تؤكد على هذا التوجه. عندما انهار نظام صدام حسين لم تجد الولاياتالمتحدة وحلفاؤها أي قواعد شعبية تذكر لأي تيارات أو تنظيمات علمانية يمكن الاعتماد عليها، ووجدت الشارع العراقي يتحرك بتأثير المرجعية الدينية، والدستور الذي كرس مفاهيم التعددية والحرية تحت مظلة إسلامية حظي بمباركة أمريكية، والنظام التركي بقيادة رجب اردوغان كان نموذجاً في ذهن بوش عن تركيا الإسلامية القادرة على إشاعة ونشر مفاهيم ديموقراطية في المنطقة تحت واجهة حزب العدالة والتنمية ذي النزعة الاجتماعية - الإسلامية ولو كان تحت حراسة مؤسسة الجيش الوفية لمبادئ اتاتورك العلمانية. يراهن الغرب على إسلام سياسي معتدل قابل للعمل تحت غطاء الديموقراطية وآلياتها من خلال قراءته لواقع ثقافي، لن يسلم حتماً لأي مشروع سياسي بعيد عن مفاهيم ضاربة في جذوره وتستدعي كل عوامل المقاومة والرفض.. كما أن الإسلام السياسي هو القادر اليوم على احتواء إسلام متطرف تعتقد الولاياتالمتحدةالأمريكية والغرب أنه البديل الأكثر سوءاً إذا تركت المنطقة نهباً لواقع متعثر وسلطة مهما قويت قبضتها لا يمكن المراهنة على قدرتها في المستقبل على ضمان مصالح الغرب في منطقة من أشد مناطق العالم حساسية اليوم وقابلية للتفجير. لكن ليس المهم ما يريده الغرب المهم كيف تنظر المنطقة لنفسها وكيف ينظر لها قادتها وكيف تكون المبادرة متأخرة ومتعثرة وغير ذات جدوى إذا جاءت على وقع الضغوط الخارجية لا بانتهاز فرصة تحول ممكنة. إقصاء الإسلام السياسي الذي يحلم به بعض المثقفين العرب عن واقع أي عملية سياسية هو خيانة لأي مبادئ يمكن أن يبشر به أمثال أولئك من منظور القيم الليبرالية التي يدعون لها ويبشرون بها صباح مساء.. والذي يعطي الإسلام السياسي قدرته على الوصول إلى عقل الشارع العربي، هو تلك المحرمات السياسية التي جعلت منه مشروعاً نظرياً رائعاً يستدعي قيماً يحلم بها إنسان مهمش ومحبط ويائس، لم تكن تلك التجارب التي دفع ثمنها سوى وقود لاستلهام عنوان براق ومغري وشعار جاذب (الإسلام هو الحل)، والإسلام هو الحل في الحقيقة كمنظومة قيم لكن الممارسة السياسية شيء آخر، وما لم يوضع هذا الشعار على محك الواقع كممارسة لن يكون سوى حل سحري في عقل شارع يعرف أن ثمة إقصاء متعمدا لحلم يستبد به ويستمد قوته من منظومة ثقافية تدين للإسلام كمشروع حياة ومن خلال حالة إقصاء متعمدة لهذا التيار تجعله يدرك أن حرمانه منه دليل على الخوف من تأثيره في معادلة الحياة اليومية لصالحه وتوظيف قيمه في محاربة الفساد وتحقيق العدالة وإعلاء قيم الحق والفضيلة. تيارات الإسلام السياسي التي تشارك اليوم في الحياة السياسية عليها أن تقدم مشروعاً أكثر تفصيلاً، مشروعاً ذا سمات قابلة للحياة ولا يمكن أن تُعيد المنطقة إلى واجهة الاستبداد، مشروعاً متوائماً مع مشروع ديموقراطي تعددي وضامن للحريات وضامن لحقوق الأقليات ومستند على حقوق المواطنة لا حقوق الجماعة ومعتمد على قانون أو نظام أو دستور مكتوب لا شعارات فضفاضة تداعب خيال حالم. لقد لفت انتباهي في الدستور العراقي الجديد تلك المواءمة الرائعة بين الإسلام كدين للأمة ومصدر رئيسي للتشريع وضامن للحقوق، فلا قانون يمكن مناقشته طالما خالف أساساً من المعلوم بالدين بالضرورة ولا قانون أيضاً يمكن البحث فيه طالما تجاوز حقوق المواطنة أو كان فيه انتهاك لمبادئ الحرية والمساواة. ثمة فرصة حقيقية للتعامل مع إسلام مبادئه العظيمة وقيمه الرائعة لا يمكن أن تتجاوز حق الإنسان بالحياة والحرية والكرامة الإنسانية والقدرة على الاختيار على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات بين كل أطياف وتنوعات المجتمعات العربية والإسلامية، وثمة فرصة لحراسة مفاهيم تعددية يمكن قبولها والمضي بها بما لا يمكن أن يصادم إسلاماً سياسياً يفتح الأبواب أمام أمل التغيير بلا مخاوف تستدعيها أدبيات اقصائية يمكن مراجعتها وحسم الموقف منها وذلك بتبني مشروع اوسع من حالة ارتهان لشعارات لا تحمل حتى اليوم أي ملامح أو تفاصيل تسلم بمفاهيم الديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، وتستلهم مشروعاً إسلامياً سياسياً ضامناً لتلك الحقوق، منتزعاً تلك المخاوف من عقول لا ترى في الإسلام السياسي سوى وسيلة للاستحواذ على السلطة لا إدارتها.