تتواتر في عالمنا العربي الحوادث!! تحدث، وأنا أعيش آخر ربع ساعة من عمري مرتبكاً بين السؤال والإجابة بين الإدراك وعدمه.. تحدث فى حزم من ألم، تراها في الوقائع أمام عينيك، أو تأتيك في الكوابيس حية وصاحية. تشاهدها فيما يجري ملطخة بالدم والفضيحة، وأنت، وبسبب من الضيق العام أو بسبب الحضور الجاثم للقتلة، وغرف الخرافة المكبوسة بالبخور وتمتمات السحر والغواية، أو زحمة الرؤوس في الشوارع، وأماكن العبادة، والحدائق العامة، ودور الدروب القديمة، والكتاتيب وأروقة الفكر، وبيوت الصرافة، وصالات التلقين والإعادة، والصياغات القديمة لكراهية الحياة، والحفاوة الباذخة لصناعة الموت والشهادة المزيفة!! عبر كل هذا تأتي الأحداث مخترقة أيامنا، وحياتنا، وأحلامنا!! مثلما حدث تماماً لنجيب محفوظ -عليه رحمة الله-، يوم خرج له من ظلام أول الليل ذلك الشاب القادم من المجهول، وكان يوم جمعة من العام 1994 وتقدم نحوه، وكان ممسوح الملامح، تشعر به غائباً عن وعيه، يسبح في ملكوته، يتقدم من الكاتب الكبير، الهرم الذي يخطو عبر سنينه نحو أبديته، وهو يتجه إلى ندوته في صحبة مريده الذي لم يأخذ خيانة، ولم يستشعر غدراً وظن أن الشاب يريد مصافحته فمد له يده بالسلام فإذا بالشاب ينحني ويطعنه في عنقه بسكين جازا العق، وشعوره يتضخم بأنه يفتح طريقه إلى الجنة!! نفس الحكاية.. التي لها أول، وليس لها آخر!! أستعيد الذكرى. والذكرى تنفع، وتنبه مثل ناقوس الخطر. نفس الأمر، حكاية تتواتر، وتحدث بفعل فاعل، في حضور الشهود، مع سبق الإصرار والترصد، بنية الاغتيال، وبهدف وأد الحياة وكتم أنفاسها بحجة محاربة الكفر والجاهلية، والخروج عن الملة، وتنفيذ شرع الله في الأرض. مثلما جرى في الأول يجري في الثاني!! هجمة الغشيم، الأمي، الذي لا يعرف، صاحب الوعي الأسير للخرافة، وأوامر الأمير الجالس الآن على حاشية يقبض على عالم الموت. هجمة غائرة، والطعن بالسكين، والزمن ليل، حيث يحل الظلام ويصير سترا، ويسهل الفرار في الدروب للمدن القديمة. عبداللطيف اللعبي كاتب من هذا الزمان. قيمة ورمز. انحاز عمره للناس، ولوطنه الكبير، وكتب عن أحلامه، ودافع عن وجوده. أحسن الكتابة، وأجملها خط يراعه. وديع مثل حمامة. لا تسمع له صوتاً، تستطيع باطمئنان أن تطلق عليه "ملح الأرض" تسمع صوته بالعافية، وتدرك أن الرجل ينطوي قلبه على عمقه الخاص. يهمس: يا سعيد يا كفراوي نفسي أزور القاهرة أنا وزوجتي وأكون في صحبتك. ونكون في ملتقى الرواية، وأنا من يومها في انتظارهما، ولم ينفذ وعده بعد!!.. عليه سلام الله. يتمتع اللعبي ككاتب كبير ومؤثر، ببصيرة قادرة على التقاط أحوال الناس وهمومهم: شاعر كتب المدينة وارتبط بأهلها وحمل عنهم سؤال العدل والحرية، وروائي جسد القمع مشهدا ورؤية، ومفكرا انشغل بأسئلة الحداثة والحلم بالتغيير، وبعد كل ما قدم كانت مكافأته ثمانى سنوات خلف أسوار سجن بلا نوافذ. كتب الشعر في دواوين "عهد البربرية" و"قصة مغربية" و"الشمس تحتضر" وغيرها بلغة أخرى. وكتب الرواية "مجنون الأمل" و"العين والليل" وترجم للفرنسية أعمال محمود درويش والبياتي وغيرهما، وأصدر مجلته الطليعية "أنفاس" التي بدأت بطرح الأسئلة الجديدة، والتي عاشت الاحتمالات، والتي رأت في الثقافة حرية وفعل حرية. شّرف الثقافة العربية، وكرمته فرنسا بجائزتها الكبيرة " الجونكور" في الشعر، كما لعبداللطيف اللعبي حضوره المميز والفاعل في الثقافة الفرنسية وبين الفاعلين منها. كاتب مثل هذا يستحق أن تقف في دروبه الإبل. لكن في عالمنا العربي يحدث العكس يقيم اللعبي وزوجته "جوسلين" في بيتهما بالمغرب. ترصده العين لا نعرف لماذا؟ وفي الليل، نفس الليل الذي رصدت فيه العين محفوظ يقتحم المعتدي المنزل شاهراً سكينة ويطعن الكاتب بلا رحمة في الرأس فيحدث جروحاً تتطلب ثماني غرز بالتمام والكمال، ويطعن الرقبة حيث مرت الطعنة على بعد ميلليمترات من الشريان السباتي ولامست القصبة الهوائية مع أصابه في القفص الصدري. حاولت الزوجة الشجاعة الدفاع عن الكاتب والزوج فتعرضت لاعتداء مهين حيث كسرت اسنانها، وعاشت لحظات واجهت فيها الموت والعنف. يثق عبداللطيف اللعبي أن الاعتداء لم يتم بوازع السرقة، بل المعتدي يقصد شيئاً آخر باستخدامه السكين في الطعن المدبر من جهة خفية هم يقتلون الكتاب.. أليس كذلك؟! ولا فرق هناك بين ما جرى في العام 1994 وما جرى لعبد اللطيف اللعبي!! هو حكم بالموت معلق على رؤوس المختلفين، المحبين لأوطانهم، وهي مأساة المثقف العربي في الزمن العربي، ذلك المثقف الواقع بين مطرقة التعصب الديني وبين مطرقة الأرهاب والعنف.. فلا حول ولا قوة إلا بالله!!