في مقال نقدي قديم قدم المفكر الإسلامي سيد قطب، دراسة عن الكاتب الشاب نجيب محفوظ يبشر به أهل العلم والثقافة، والقراء العزاء بميلاد كاتب شاب سيكون له الشأن الكبير، كاشفا عن جوهر موهبته التي سوف تسطع مع قادم الأيام. في ذلك الوقت – حين كان سيد قطب ليبراليا عتيدا ومثقفا مدنيا – لم يكن يعرف بأنه بأفكاره، في مستقبل الأيام، حتى وهو في حضرة الموت، سوف يدفع من يضع سكينه في عنق الكاتب الشيخ!! أفكار تتواتر، وصور تتناقض، ونتائج لا تتوافق مع أسبابها. محنة الواقع العربي في زمنه الصعب!! خمسة وربع، تقريبا كانت الساعة، وساعة محفوظ لا تكذب. يوم جمعة. الرابع عشر من أكتوبر سنة 1994 والقاهرة يوم الجمعة شبه خالية، والناس فيها قليلون، إلا من بعض الزبائن في مطعم يجاور منزل الكاتب الكبير الذي يتهيأ الآن خارجا منه حيث موعد ندوته، ينتظره صديقة الدكتور الأديب محمد فتحي هاشم. أمضى نجيب محفوظ عمره ابن بلد وصاحب الفة.. شيخ وداعته تدل عليه، وبسمته علامة على الرضى بالمقدر والمقسوم، قرينة لبساطته المعجزة التي كانت تدهشنا كلما تحلقنا حوله. وكنت تراه الصبح بدري، وقبل أن تشرق الشمس مع آخر ذيول الفجر سائرا على كورنيش النيل متأبطا جرائد الصباح، ملقيا سلام الله على من يمر بهم من بسطاء الناس. في اللحظة التي جلس فيها الأديب الكبير في السيارة، لاح شاب من العوام، مترددا، مرتبكا، وحين اقترب من السيارة ظن الشيخ أن الشاب يريد أن يصافحه فاخرج يده لمصافحته، إلا أن الشاب انحنى وقبض على الذراع بكل قواه، واخرج سكينة قرن الغزال وطعن بها عنق الكاتب في وحشية مفاجئة. يروي نجيب محفوظ عن تلك اللحظة انه شعر بمخالب حيوان تنغرس في رقبته، وأحس انه الموت. كان الشاب يدور بالسكين في العنق مهتكا شرايينه بلا رحمة، وكان يردد الشهادتين بصوت مرتفع!! فيما ينبثق الدم الذي يظنه الشاب طريقه إلى الجنة تنفيذا لأوامر أميره الذي يقبع الآن في الظلمات!! دم رجل حلم لنفسه ولأمته بالحرية. وعاش يكتب بعدل. كانت طعنة تستمد شرعيتها من كتاب "معالم في الطريق"، وبتخطيط أمير الجماعة الذي يحول مثل هذا الشاب المسكين إلى أداة للقتل!! هؤلاء المجبولون على التنفيذ. عبيد سياسة "السمع والطاعة"، هؤلاء الذين ساهم في تكوين وعيهم فشل الدولة في التعليم والإعداد، وعجزها عن مقاومة التطرف. تعتقد الجماعة أن هذا الفعل الدموي سوف يحقق لها: يوم الجمعة، البلد خالية، والزحام القليل يولد الفرص، واصرخ وحدك فلا احد هنا، ولا أحد هناك!! اختيار نجيب محفوظ لأنه شخصية معروفة في بلدان كثيرة عبر ما يكتبه، وعبر ما حصل عليه من تقدير. دوي الحدث سوف يخدم الجماعة إعلاميا، كما يظهر عجز الأجهزة الأمنية أمام المجتمع، كما يكشف عجز الدولة عن حماية رجالها الكبار. التأكيد على قدرة الجماعة على الفعل. كان نجيب محفوظ في فهم هذا الشاب، أنه عبر ما يكتب يسيء إلى الإسلام، ويكتب ما يناقض الدين الحنيف. في دراسة للمستشار "اشرف العشماوي" "وهو روائي أيضا"، وهو الذي حقق في القضية، وهو الذي سأل المتهم الذي ارتكب الجرم الفاحش: لماذا حاولت قتل نجيب محفوظ ؟ أجاب: أنا حاولت قتله لأنه كافر. يقول المستشار: كان شابا نحيلا، أصفر الوجه، أمرد، توحي ملامحه بالبؤس، وتشي جبهته بضيق الأفق. يضيف كان صامتا لكنني عندما تكلمت معه اكتشفت انني أمام شخص أجهل من دابة، ضحل وفارغ حتى أوائل أصول الفقه لا يعرفها مما جعلني أتاكد أن تلك الجماعات لا تضحي بأعضائها البارزين في هذه النوعية من العمليات. لقد حدد له أميره المسؤول عن العملية العنقودية، الوسيلة المستخدمة، وخطة التنفيذ، والهروب بعد ذلك. لقد رصد تحركات الكاتب الكبير على مدى شهر، فاختاروا التنفيذ يوم الجمعة، يوم ندوة الكاتب خارج بيته. كانت التعليمات أن تتم العملية بالرصاص، لكن بسبب من زحمة مفاجئة قرر الشاب أن تتم بالسكين التي لا تفارق جيبه حيث اقترب من الكاتب وطعنه وهو يردد الشهادتين. وحين سأله المستشار عن مغزى نطق الشهادتين هنا، هل لأنه خاف أن تقتله المارة فيكون قد نطقها، أم كان يلقنها لمحفوظ باعتباره من الكفار في نظرهم، فكانت إجابته الثانية!! نفس الآلية، ونفس شكل التنفيذ. والصحراء مدى في المكان، والزمان شمسه حارة على صحراء العرب، ممتدة وحارّة، ورجل مفتح العين تحت عصابة سوداء، ينحني على الرمل، تحيطه جماعة يرتدون السواد، يقبض كبيرهم على سكين في انتظار جز رقبة الضحية تحت نظر العالم، من غير حسبان لكرامة الإنسان الذي أحسن الله تقويمه، المشهد هنا هو المشهد هناك لحظة مثبته على جبهة الزمان العربي الذي يثير دهشة كل الأزمنة!!