أشرنا في عدد من المقالات السابقة إلى ما يتطلبه تنظيم معارض فنية، وما يتخذ من خطوات تحضيرية، قبل وأثناء وبعد إقامة هذه المعارض، ونحن إذ نعرض قضية مماثلة اليوم، تتعلق بإقامة معارض شخصية للفنانين، ونخص بالذكر هنا معارض يقيمها الفنان محلياً، فالفنان بطبعه، هو الكائن المتأمل الذي يمر بعدة مراحل لاستجلاء كوامن ما يرغب التعبير عنه، فهو هنا في المرحلة التحضيرية الذهنية، التي تجمع بين حدس وخيال شد انتباهه، وكون لديه مخزوناً وجدانياً لينطلق بإفراغ شحناته إلى عدد من الرؤى الإبداعية أو بمعنى آخر انه يمر بتلك المرحلة التي تكون لديه ذهنياً عدد من تلك الصور أو الرؤى الجمالية، التي تعد موضوعاً متكاملاً للعمل الفني، انها هذه المادة الخام أو ما نطلق عليه (الموضوع الجمالي) التي يتخذها الفنان كموضوع ثري، ليكشف عنها ويبرزها ويعبر عنها تعبيراً فنياً منفرداً، كما انه ليس بالضرورة أن يكون هذا الموضوع انعكاسا للواقع ومحاكاته، بقدر انه حدس جمالي، يتناول الجوانب الشعرية الوجدانية في الحياة التي حركت مشاعر الفنان، ولفتت انتباهه، ويراه ويدرك كيفية توظيفه بحيوية، في سلسلة من الأعمال الفنية. ولنقرب هذا المعنى نأخذ مراحل مماثلة مر بها الفنان الأسباني العبقري بابلو بيكاسو" 1881 1973- " الذي عاش 92 عاماً متقلباً في عدد من الأساليب والمراحل الفنية، ويعد من أهم عظماء الفنون للقرن العشرين، استوقفته الفترة ما بين عامي 1900-1902م عندما ذهب إلى فرنسا لأول مرة ووجد أنه برغم روعة عاصمتها باريس؛ إلا أن حياة الناس بها (حياة بوهمية) كما وصفها بيكاسو، وشد انتباهه شخصيات تعيش في شوارعها حين ذاك من عميان ومتسولين وما شابه، فكونت هذه الانطباعات ولادة (للمرحلة الزرقاء) التي هيمنت درجات اللون الأزرق الحزين على أغلب أعمال بيكاسو بها، معرباً من خلالها عن البؤس البشري، ولم تظهر هذه الأعمال؛ إلا في عام 1904 م. المرحلة الزرقاء لبيكاسو وبعد فترة وجيزة من استقرار بيكاسو في باريس في الفترة ما بين عامي 1904 و 1905، التقى بيكاسو بعدد من الفنانين والكتاب، الذين كان لهم دور في تغيير مزاجه، وتبدلت رؤيته للحياة، فأصبحت أكثر إشراقاً وبهذه العلاقة السعيدة، والتي تدعي (المرحلة الوردية) في حياة بيكاسو عرفنا روائع لأعمال فنية انتجها بصياغة جديدة، وتعبير خلاق كلوحة (الشاب والبايب) و (العائلة) وغيرها، من أعمال أخذت سنتين من عمره ووقته لإنتاجها، تلا ذلك وبالتحديد في عام 1906 م مرحلة تمهيدية لأسلوب أو اتجاه بيكاسو التكعيبي، وهي مرحلة "التكعيبية التمهيدية، إذا صح التعبير للترجمة الإيطالية إلى العربية، (Protocubism) عندما دخل عمله مرحلة جديدة، تمثلت في تأثير الفن الإغريقي والأفريقي على أعماله وتوجه بصياغته بشكل جديد، عندما وجد لوحة من زجاج مكسورة، فكانت هذه اللوحة مصدر استلهام بيكاسو لعدد من الأعمال، التى قصد بها أن يدمر في الحقيقة العمق المكاني والشكل المثالي المرسوم، ونجد هذا واضحاً في عدة أعمال له عندما انطلق في إعادة هيكلة الواقع القاسية، التى استخدمها في أعمال منها مجسمات وتوليفات بخامات أخرى عام 1960 م. ونحن إذ نستعرض نبذة من هذا التاريخ من حياة فنان ليس بغرض استعراض مسيرته الفنية في حد ذاتها، فهناك روائع عرفناها في تاريخه مر بها بمراحل مختلفة من إنتاجه الفني ( كنساء في حياة بيكاسو)، ومرحلة (نساء أفار نيون)، ولوحة (الجيرنكا) الشهيرة وغيرها من الأعمال، فالغرض هنا إيضاح أن كل أسلوب أو اتجاه مثل فترة من فترات حياة هذا الفنان، قد أخذ وقتا لا يستهان به من التأمل والدراسة ليستخلص من خلاله موضوعا متكاملا، أو رؤية تطرح في أعماله الفنية، فكان كما ذكرنا في البداية (موضوع العمل الفني) لحن الحياة الباطنية، الذي يكون حزينا حيناً وحينا آخر فرحاً هو الحدس الذي يحيله الفنان بأدواته إلى مقطوعة موسيقية، يشارك متعتها مع الآخرين والذي يأخذ سنوات ليظهر متميزا، ونستطيع الإشارة إليه كتجربة فنية جديدة تضاف لمسيرة الفنان، وأنه تراكمات فكرية ليس بالضرورة أن تخضع لأسلوب أو طراز أو إلى طريقة التنفيذ أو أداء معين، بقدر أنها حصيلة موضوع جمالي حدسي، يحوله الفنان إلى صياغة جديدة بتعبير فلسفي ورؤية جمالية تعبيرية مبتكرة، ولكن ما نجده الآن في واقع ساحتنا المحلية من معارض تشكيلية شخصية، لم تضف لنا الجديد بل ولا تعد ما يطلق عليه بالأرقام ( المعرض الشخصي الأول) ويليه الثاني والثالث وهكذا، الى آخر المنظومة، فنجد على سبيل المثال أن ما شاهدنا من أعمال في معرض لأحد الفنانين، ولقب بالمعرض الأول هي نفس الأعمال التي نشاهدها بعد عدد قليل من الشهور، وبنفس المضمون والأداء والفكرة والتعبير في معرض لقبه بالمعرض الثاني، ومن ثم الثالث والرابع، وقد يعتقد البعض أن الغرض هو تسويق الأعمال المتراكمة لدى الفنان، بينما هناك ما يلقب بعد عدة سنوات من الإنتاج الفني وتراكم عدد من الأعمال لديه ما يسمى بالمعرض (الاستعادي)، الذي يطرح من خلاله مراحل مختلفة من أعماله الفنية واتجاهاته، التي مر بها سابقاً، فالفن قصائد شعرية تحمل نسقا فريدا وطرازا فنيا، له أبعاد فكرية وفلسفية، ان تشابهت وتكررت معانيها في كل قصيدة، ستفقد مع الزمن مضمونها ولغتها الأصيلة. من أعمال المرحلة الوردية المرحلة التكعيبية لبيكاسو