قد يجد الفنانون التشكيليون إشكالية كبيرة ومعقدة في استيعاب الزائر لمعارضهم ولوحاتهم التي يصعب على البعض من المشاهدين فك رموزها وإدراك مكوناتها الجمالية، ورغم أهمية الفن الذي يعد مرآة صادقة تتجلى فيها نهضة الأمم وحضارتها وتقدمها، كما أنه نص بصري بلغة مفهومة بين كل البشر ينشر قيم الجمال والتذوق. هذه الأدوار وغيرها كثير من الأدوار البارزة التي يلعبها الفن التشكيلي ليعكس بها الصورة الحية بالتعبير الذي يجمع التفكير والجمال معاً ليعكس حياة شعب وأحاسيسه وقضاياه ويكون صورة عاكسة للمجتمع تنبض بالحياة، رغم ذلك كله إلا أنه مازال يواجه إشكالية في استيعاب المجتمع سواء لأهميته أو تذوقه. لقد أكد الكثير من العلماء والباحثين أن الفن يولد مع كل إنسان بالفطرة والدليل على ذلك ميل الأطفال منذ حداثتهم للتلوين والتقاط كل صغيرة وكبيرة يشاهدها ليتمعن بها، هذه الفطرة بأصالتها نستطيع أن نصوغها كما نريد وقد تتفاوت في قدرات طفل عن آخر لعوامل عدة منها وعي الأسرة لموهبة الطفل واحتضانه بالتشجيع والإعجاب بما يرسم، ويذكر الدكتور بشير خلف في كتابه عن الطفولة ومعوقات الإبداع "جديرٌ بالذكر أن تطوير القدرات الإبداعية لدى الطفل لا ينفصل عن العملية الشاملة للتنشئة الثقافية والتنشئة الاجتماعية على جميع المستويات في المجتمع الواحد. ولمّا كانت السنوات الأولى من عمر الإنسان تشكّل قاعدة أساسية في تنشئة الطفل وتربيته وتوجيهه وتهذيبه وإبراز القدرات الكامنة عنده ومنها ملكة الإبداع فإن أغلب المجتمعات تُولي العناية لتطوير القدرات الإبداعية كما أن المتخصّصين في التربية وعلم النفس يضعون معايير يمكن من خلالها تحديد الأعمال والمنتجات الإبداعية للطفل تتمثل في الجدّة والأصالة والتميّز، وينبغي ألاّ ننظر إلى الإبداع في فنون الطفل من المنظار العلمي المطلق كنظرتنا إلى أعمال الراشدين وإبداعاتهم وإنما يُحدّد ذلك من خلال المقارنة والتميّز على الأقران في نفس العمر. ومن الأمانة العلمية أن يكون المقيِّم لإبداع الطفل مدركا لمراحل النموّ الفنّي لدى الأطفال حتى يمكنه تحديد مستوى هذه الأعمال الإبداعية وما إذا كانت تتماشى مع مستواه العمري أو أعْلى أو أدْنى، فالطفل خيالي في رسومه ولا يلتزم بالواقع، ونحن آثرنا أن يكون حديثنا عن الإبداع في الرسم أولاً لكونه النشاط الأساسي والأول المُمارس من الطفل في سنّ مبكرة قبل بداية التحاقه بالمدرسة وقبل معرفته للحروف ذلك أن رسوم الأطفال أحد أشكال بناء النفس في المجال المعرفي والعقلي والمزاجي والوجداني، فهي ليست مجرّد تخطيط عديم المعنى بل تعني الكثير للطفل أو لمنْ يهتمّ به فهو يستنطق من خلال رسومه كل ما يعتريه من آمال ومخاوف وأفكار ومفاهيم، ولذا لا يكون اهتمامنا منصبّاً على النواحي الجمالية وإنما يشع ليكشف الصلة بين خصائص النموّ الفني ونواحي النموّ الأخرى". ونجد مما سبق ذكره أهمية نشأة الطفل لتذوق الجمال لنغرس بذلك البذرة الأساسية لمجتمع يعي أهمية الفنون والإحساس بالجمال كما عرفه الدكتور شوقي جلال بقوله: "الإبداع هو تجدد الحياة وهو فعل اجتماعي له شروط وليس هبة فردية، إنه جزء من صناعة الوجود. ولما كانت الأسرة والوالدان خاصة هما مدخل الإنسان إلى المجتمع فحري بنا أن نوجه اهتمامهما إلى الوعي بهذا الجانب وأن الحس الجمالي ونعمة التذوق هما هبة لخلق مجتمع حضاري فالأب المتسامح الذي يعود طفله على الجرأة والبحث بالتشجيع وكذا الأم المثقفة الواعية بأهمية نمو الطفل على الاعتماد على الذات جدير هذا الوعي منهما أن يغرس في نفس الطفل حب الله وحب الحياة وحب الناس وبذا تنشط روح المبادرة وإثبات الذات من خلال الإبداع". وهناك سؤال يطرح نفسه هل نحن نعيش في بيئة تنمي وتعي أهمية الإبداع؟. فما زالت المعارض التشكيلية المحلية تقتصر زيارتها على الفنانين والإعلاميين، وقلة قليلة من الفئات المثقفة هي التي تحضرها، وإذا قارنا هذا بالمعارض التشكيلية في البلدان الغربية نجد أن هذه الأخيرة تحظى بطابور من الجمهور يتعدى طوله عددا ليس بقليل من البشر الذي يتهافت ويدفع ويحجز مسبقاً تذكرة بقيمة مادية ليشاهد معرضاً كما أنه يدفع قيمة مادية أيضاً لشراء الكتيب الخاص به بينما جميع هذه العناصر متوفرة بدون مقابل للزائر المحلي ولا تقل جودة وأصالة عن الأعمال الفنية الغربية، مما يثبت بأن هناك إشكالية في عدم الوعي العام بأهمية هذا الجانب الإبداعي تنقسم إلى شقين؛ الشق الأول ونذكر منه بعض المعوقات التي ذكرها الدكتور بشير خلف وتنطبق على مجتمعنا المحلي والعربي وهي: ضخامة المناهج: كثرة المواضيع والمحاور بالمناهج الرسمية المقررة للمستويات التعليمية تعوق غالباً المدرسين عن تنمية القدرات الإبداعية لدى تلاميذهم وطلابهم خاصة عندما يشعرون بأنهم ملزمون بإنهاء المادة الدراسية من ألفها إلى يائها، والإدارة التربوية تريد ذلك، أما الأولياء فلا تهمهم المعرفة كغاية في حدّ ذاتها بقدر ما يهمهم أن ابنهم انتقل أو تحصّل على الشهادة.. وللعلم لا يوجد في الأدب التربوي ما يؤكد أن إكمال تدريس مادة تعليمية ما تعني أن التلاميذ قد استوعبوها وامتلكوها وتمثلوها. تصميم المناهج والكتب الدراسية تشير الدراسات التقويمية للمناهج في العالم العربي عموماً إلى أن المناهج والكتب المدرسية المعتمدة، لم تصمّم على أساس تنمية الإبداع، والأدب التربوي في مجال الإبداع يؤكد على الحاجة إلى مناهج تدريسية وبرامج تعليمية هادفة ومصمّمة لتنمية التفكير الإبداعي لدى التلاميذ، فبرامجنا غالبا ما تخلو من فرص التجريب العلمي والرياضي والأدبي والفني، وحتى إن وجدت يتخلّى عنها المدرس ويتجاهلها. النظرة إلى الإبداع: يعتقد بعض المدرسين خطأً أن القدرات الإبداعية لدى التلاميذ والطلاب موروثة ومحصورة في عائلات معيّنة دون غيرها، وأن بيئة التعلّم أثرها قليل ومحدودٌ في تنمية القدرات الإبداعية، ويرى البعض الآخر أن الموهبة تكفي دون تدريب للإبداع، كذلك هناك عدد كبير من المدرسين؛ وبخاصة ذوي الاتجاهات السلبية نحْو الإبداع، لا يعرفون أساليب الأداء الفعّال في التدريس ولا الطرق التربوية المساعدة على اكتشاف المواهب وتنميتها، ويسكنهم الخمول إلى درجة أن معارفهم وطرائقهم التي استهلّوا بها حياتهم المهنية تتآكل سنة بعد أخرى وركنوا إلى مقولة : "ليس في الإمكان أبدع ممّا كان". اعتبارات أخرى: أغلب المدرسين يغفلون أو يتجاهلون أن أغلب التلاميذ والطلاب على اختلاف أعمارهم وعروقهم مبدعون إلى حدّ ما، بمعنى أن قدرات التفكير الإبداعي موجودة عندهم جميعاً، مهما اختلفت أعمارهم وعروقهم وأجناسهم، كما أنهم متفاوتون في القدرات الإبداعية، بمعنى أن الفروق الموجودة بينهم هي فروق في الدرجة، لا في النوع أو هي فروقٌ كمية لا كيفيةٌ، كما أن للبيئة أهمية كبيرة في تنمية الإبداع والتفكير الإبداعي من خلال تأثيرها على الصحة العقلية والقدرات الإبداعية للمتعة، فالمتعلمون يتعلمون بدرجة كبيرة وفاعلية في البيئات التي تهيئ شروط تنمية الإبداع، فقد تتوفر عند المتعلم القدرات الإبداعية التي تمكّنه من الإبداع، إلاّ أن البيئة (البيت، المدرسة، مجموعة الرفاق، المجتمع بتركيبته المتنوعة ومؤسساته المختلفة) قد لا تتوفر فيها التربة الصالحة للإنتاج الإبداعي الخلاّق. الشق الثاني: هو اهتمام الدوائر الحكومية المختصة بهذا المجال ودعمه، فنحن محلياً رغم جميع الظواهر والمنشآت المعمارية الحديثة التي نجدها على أحدث تراث معماري، لا نملك متاحف للفنون المحلية، بل لا يوجد متحف واحد يعرض إبداعات فناني الوطن الأصيلة، كي نفتخر بها أمام كل زائر أو مقيم ونشر الوعي عبر وسائل الاتصالات الحديثة عن إنتاج وتاريخ هؤلاء المبدعين للعالم، كما أننا إذا زرنا أغلب هذه المنشآت المعمارية الحكومية منها وغير الحكومية؛ نجد أن أغلب اللوحات التي تزينها هي لأجانب، وليس لفناني الوطن، هذه بجانب عوامل أخرى كثيرة، لا نستطيع سردها لضيق المساحة، ولكن من خلال ما ذكر نجد أن الإحساس بالجمال هو نوع من السلوك الذي يكبر ويكتسب من خلال التعلم، وهو الباحث دائما على الاستقرار النفسي والتكامل بالشعوري بين الروح والجسد، ومن هنا كانت الدعوة لتذوقه والحرص على تذوقه، فنحن بحاجة ماسة إلى النظر للأشياء برؤية جمالية والرجوع إلى الطبيعة البكر واستنطاقها من جديد. الفن يشجع على روح التعاون بين الأطفال