شهد حفل تكريم الروائي المعروف الأستاذ يوسف المحيميد بمنتدى الاثنينية في أمسية الاثنين الماضي بدارة الشيخ عبد المقصود خوجة في جدة، حضوراً لافتاً من المهتمين بالسرد القصصي والروائي، حيث استهل اللقاء الشيخ عبدالمقصود خوجه بكلمة ترحيبية وصف فيها ضيف المنتدى بالمبدع المفرد في صيغة الجمع لتعدد أنساق الكتابة في مشروعه السردي بما يجعل من اختلافها فعلا تكامليا ملهما، ومصدرا لإنعاش ذاكرة الحكي، جاء فيها: «تسعد مقاعد الاثنينية هذه الأمسية بتكريم الرواية السعودية الحديثة، احتفاء وترحيبا بالروائي المجدد الأستاذ يوسف المحيميد، المسكون بقلق أسئلته الحميمة، التي ظللت أعماله الروائية بغلالة فلسفية شفافة، فهو مفرد بصيغة الجمع، ذلك كونه صاحب مشروع إبداعي أخذت ملامحه في الظهور في عشرينيات قرننا الجاري بواكير الثمانينيات الميلادية المنصرمة، عبر أنساق متعددة من أجناس الكتابة الإنسانية تصب مجتمعة باتساق فريد في محيط رؤيته الواسعة، بما يجعل من اختلافها فعلا تكامليا ملهما، ومصدر إثراء ينعش ذاكرة الحكي لروائي يحلق بأجنحة شاعر، وشاعر يمشي بالأقاصيص، وصاحب عين تحاور اللون في ظلال الصورة يبحث عن روحه فيجدها قد اتكأت في كل زوايا التجريب، فالإبداع هو فعل حياته الضروري والمغامرة الشائقة التي يخوضها بوعي الكتابة لأن الكلمة المتأصلة بأغوار التجريب هي موقفه النهائي المتدثر بحرارة حلمه الإبداعي العريض». وأضاف الشيخ خوجه قائلاً: «قدم المحيميد للذائقة النقدية مادة فنية غنية للبحث خلال ما يقترب من ربع قرن من الزمان، تنوعت مؤلفاته فيها ما بين المجموعات القصصية، وأدب الأطفال، والملاحم الروائية التي تربو على العشرة عناوين ازدهت بها أرفف مكتبتنا الأدبية بكل ما هو عالٍ في قيمته الفنية، طرح أولى مجموعاته «ظهيرة لا مشاة لها» في بداية قرننا هذا نهاية الثمانينيات الميلادية، فتواترت بعدها مجاميع قصصه التي أفرزت حراكا محموما في المنابر النقدية السعودية أنتجته موهبته الفذة بسجال متصل في أوساط المهتمين، وقد أضفى على موهبته بشيء من التأملات الوجدانية والفلسفية التي يرن صداها ببداهة طاقاته التعبيرية، وبقوة إيجاز مفردته الإيحائية، وبنبرة السخرية الساحقة التي تتسلل في العديد من مواضع مخزونه السردي الغزير، والتي اتسمت بها رواياته الناضجة حينما أطلق روايته الأولى «لغط موتى» التي أعقبها بعدد من الروايات والتي استقبلت بكثير من الحفاوة على اتساع المشهد النقدي العربي، لافتا النظر إلى قيمة الرواية السعودية الحديثة لتأخذ موقعها المتقدم في الخارطة العربية فتوجته لجنة جائزة أبي القاسم الشابي في تونس الخضراء 1431ه-2011م بالمرتبة الأولى بفرع الرواية عن ملحمته «الحمام لا يطير في بريدة» في جائزة ذات ثقل إقليمي تمنح تخليدا لذكرى شاعر إرادة الحياة، وقد قدم المحيميد من الروايات ما يعد علامات فارقة بتاريخ السرد السعودي المعاصر، تم نقل معظمها إلى بعض اللغات الحية». وقدم عدد من المختصين بالمسألة النقدية بعض الإفادات والشهادات حول تجربة المحيميد الروائية، حيث أشار الكاتب الصحفي والأديب د. عبد الله منّاع إلى اجتهادات الروائيين الأوائل لرسم ملامح الرواية السعودية بإلقاء الضوء على إسهامات الروائي الرائد حامد الدمنهوري، ثم فترة التوقف الطويلة نتيجة لطغيان المد الشعري على حركة السرد العربي عموما، حتى حدوث ما أسماه بالانفجار الروائي بالمملكة في العام 1430ه-2010م والتي لمعت فيها الرواية السعودية بإنتاج ضخم يصل إلى مائتين رواية فيما أطلق عليه مظاهرة فرح تعبر عن ترحيب بحالة الحرية التي وجد فيها الكتاب أنفسهم وانطلاقهم نحو عالم آخر، مشيرا إلى رواية «الحمام لا يطير في بريدة» للمحيميد كواحدة من أميز ما صدر في تلك التظاهرة. ووقف د.منّاع على براعة المحيميد في تشخيص أبطاله بما يوجد صلة بينهم والقارئ الذي يتعاطف معهم، طارحا السؤال في نهاية مداخلته عن بقية إخوة يوسف من كتابنا الروائيين. كما قدم الناقد فيصل الجهني مقاربة نقدية لبعض نصوص المحيميد القصصية، واصفا مفردات المحيميد بأنها تجمع حكاية ما بلغة شفافة تنقل الدلالة إلى عالم المجاز الاستعاري الفاتن في أضيق حدود الكلمات، وكان في مطلع ورقته قد أشار إلى ما ظل يضطلع به صاحب الاثنينية في خدمة الأدب بالبلاد بتكريم رموزه، وقد جاء في كلمته: «لغة المحيميد تجمع مفرداتها حكاية ما, ولكن إيحاءاتها تذهب في كل الدنيا.. لغة شفافة تنقل الدلالة دوما إلى عالم المجاز الفاتن, الذي يجعل من مظاهر الكون الجميل معادلات موضوعية لما ينتابه من قلق وعشق ورفض.. إيقاع غامض يطول ويقصر, ويخوض في لحن راقص لا حدود له.. كأنه يطمح في تطابق إيقاعه الأدبي مع إيقاع الروح عندما يناديها الحنين, وتمور داخلها حكايات الكون وأصوات الكائنات.. كما أن ذلك المجاز الاستعاري, وتلك الإيقاعات الدافئة الغارقة في طقس من موسيقى (الحمام الذي يطير..أبدا) تتم في أضيق حدود الكلمات, كأنه صوفي يجعل نصوصه الهائمة لا تختار إلا أقل الكلمات, لمواكبة هذا الفضاء العلوي,, ولو كان مما ليس له بد فلتكن لغة موجزة, توحي أكثر مما تصرح, وتضمر أكثر مما تعلن.. لغة تتسع معها الرؤية بعيدا لتضيق معها العبارة.. كما قال النفري ذات لحظة إشراقية ساحرة... هذا البناء اللغوي الذي يصنع الدهشة من عروق الكلمات لا بد أن يكون متناسبا مع سمو المضامين, كما اشتغل على ذلك التناسب أسلاف المحيميد المبدعين في عالم الفن والجمال». أما أ. د. عاصم عابدين فقد عزى الطفرة الهائلة في الإنتاج الروائي السعودي في السنوات الأخيرة لتداعيات حرب الخليج الثانية، وما يعرف بأحداث سبتمبر، والتي كشفت القناع عما كان مستترا من قبل، موضحا بأن السرد عند المحيميد يتداخل فيه الشعري بما هو نثري بأسلوب مجدد أقرب إلى الملحمة منه إلى الرواية فهو رائد في مجاله، معيدا التساؤل الذي طرحه د. منّاع عن بقية إخوة يوسف في إشارة إلى خلو المشهد الروائي السعودي من الإضافات الجديدة المتميزة. وقد قدم المحتفى به الأستاذ يوسف المحيميد كلمة موجزة عن تجربته السردية تحت عنوان «شغف الكتابة وتدريب الحواس» وصف في مطلعها كلمة الشيخ خوجة بالشهادة النقدية التي يفتخر بها، لأنها تأتي من مؤسسة ثقافية متميزة وفرت كتب الرواد بوسائل النشر الورقي والإليكتروني، ولعبت دورا ثقافيا تنويريا يجب الإشارة إليه والإشادة به، معللا تعدد مساراته الكتابية لجريان نهر الإبداع بمئات الصور المختلفة التي تعلم منها بأن للحكاية وجوها كثيرة، مشيرا لتأثره بالأحاجي التي روتها والدته بطرق سردية متنوعة في طفولته، وإلى قراءاته المبكرة لبعض الروايات المترجمة، وشغفه بالفنون البصرية التي ألهمته الأساس البصري والذي أفاد منه في تجربته الروائية، حيث جاء في كلمته: «في لحظات التكريم تنتابني رغبة شديدة بالتلويح إلى أجمل الساردات في العالم، تلك التي لديها قدرة مذهلة في السرد الشفهي تفوق أكثر الروائيين مهارة وحنكة، تسرد حكاية واحدة مئات المرات، كل مرة تسردها بطريقة جديدة، بمئات الأساليب، فمنها تعلّمت أن النهر يجرى بمئات الصور المختلفة، فالموجة لا تشبه الموجة، ولا اللحظة تشبه اللحظات، لذلك علينا أن ندرك أن للحكاية وجوها كثيرة، وهي تختلف بين الساردين، بل تختلف لدى السارد نفسه حينما يرويها عدة مرات، كما كانت تفعل أمي يرحمها الله». وأضاف المحيميد: «حينما كنت في العاشرة، وفي نهاية المرحلة الابتدائية، كنت قد قرأت الكثير من الروايات المترجمة، وسلسلة المكتبة الخضراء، تلك التي كانت أختي الكبرى تستعيرها من زميلتها، ونقوم معاً بنسخها ورسم لوحاتها، كي ننجز نسخاً مقلَّدة، نحتفظ بها، ونكوِّن مكتبة منزلية صغيرة، مليئة بالقصص المنسوخة المتواضعة الجودة، بعد ذلك كبر الحلم، وقررت أن أحوِّل هذه القصص المنسوخة إلى قصص متحركة، وذلك برسمها على ورق مقوَّى وتفريغها، ثم تعريض الفراغات إلى ضوء مصباح يدوي في ظلام الغرفة، فتظهر صور الشخصيات على جدار غرفة أمي، بعد أن أكون قد جهّزتُ مونتاجاً صوتياً، يتضمن الحوار والمؤثرات الصوتية، باختصار كنت أقدِّم لأمي ولأخواتي الثلاث فيلماً متواضعاً، فهل كنت آنذاك أحلم بأن أصبح مخرجاً سينمائياً، ربما. لكنني ذهبت إلى التشكيل، وتحوَّلت غرفتي الصغيرة في زاوية بيتنا في «عليشة» إلى محترف تفوح منه رائحة ألوان الزيت، إلى أن رضختُ ذات ظهيرة لرغبة أمي بأن أكفَّ عن رسم ذوات الأرواح، كانت تتوسل بأن أرسم ما أريد، إلا وجوه البشر، وكنت لا أتقن سوى رسم «البوتريه»، ورسم ملامح وجوه الأطفال بدقة متناهية، فقررت أن أتوقف، لكنني لم أستطع أن أصمت طويلاً، فكيف إذن سأتقن التعبير، وبأي شكل فني؟. هكذا ذهبت متلصصاً إلى التصوير الفوتوغرافي، أحمل أدواتي معي أنَّى اتجهت، الكاميرا والعدسات والمرشحات الملوَّنة وحامل الكاميرا، تدهشني التفاصيل فأدونها بالكاميرا، أعشق الكائنات الراكضة فأوقف سيرها الحثيث داخل صندوق الكاميرا، هكذا كنت أتنقل بين عدد من الفنون البصرية، من ما يشبه السينما، إلى التشكيل، فالتصوير الضوئي، فهل كنت أدرِّب بصري جيداً، كي أصل إلى التصوير بالكلمات؟ هذا ما حدث فعلاً. فلم أرسم وجوه الناس بالفرشاة والزيت، بل بالقلم والحبر، ولم أحرِّك الصور على لوحة العرض الجدارية، وإنما حرّكتها على الورق الأبيض الموحش، ولم تكن هذه التجارب القديمة غير ذات جدوى، أو مجرد إضاعة للوقت، بل كانت هي الأساس البصري المهم، الذي استفدت منه في الكتابة السردية فيما بعد» وتناول بعضاً من تأثير الحواس على أعماله بالقول: «لا أريد أن أستكمل ذاكرة طفولتي مع الحواس، لأنها ظهرت جلية في معظم أعمالي القصصية والروائية فيما بعد، ولعل رواية «فخاخ الرائحة» استثمرت كثيراً توظيف الحواس، ففيها ظهرت حاسة الشم، لدى الشخصيات الثلاث، وكيف كانت مؤثرة في رسم حياة كل واحد منهم، فأحدهم ساعدت رائحته الآدمية ذئاب الصحراء لأن تصل إليه، والآخر غررت به رائحة الشَرَك أو الفخ كي يصبح مجرد رقيق يباع ويشترى، والثالث قدم إلى الحياة بفعل رائحة نفاذة عصفت برأس والده الذي تنصَّل من أبوَّته... هي الحواس إذن، التي تقودني حيناً، وأقودها أحياناً كثيرة، فما أبهى أن نلغي حواسنا فجأة، ونبقي إحداها، كي نرسم بها صوراً مكتملة للأشياء، هكذا استبدت حاسة اللمس بشكل عالٍ في رواية «نزهة الدلفين» وأصبحت الأيدي الناعمة الجميلة دلافين شقيّة، وهي تتعارك مع غيرها بشغب، تتحسس جلدها، وتقفز من جانب لآخر، تصعد وتهبط، كالدلافين في عرض البحر». واختتم الروائي المحيميد شهادته قائلاً: أحب الكتابة كثيراً، وأتلذَّذ بها، بل إنني أيضاً أحب الطريق التي تقودني إليها، أحب لحظة البحث عن معلومة صغيرة وغائبة، لأنني في الطريق إلى هذه المعلومة أعثر على مفاجآت مدهشة، لم أكن أتوقع أن أظفر بها، هي إذن لعبة البحث عن كنوز مخبوءة، تحت طبقات الأرض، أو في السحَّارات، أو في ورقات سِفر قديم، فما أجمل الرحلة، وما أبهى الظَفَر... ولكن ما هو الظفر من هذه الرحلة الطويلة مع الكتابة خلال ربع قرن؟ هل هو النشر والترجمة والجوائز والتكريم وربما الشهرة؟ أم هو القارئ الذي يحاورني كثيراً، سواء في العالم الافتراضي، أي الإنترنت، أو في الواقع؟ ما الذي خرجت به بعد ربع قرن من الكتابة؟ قد تكون إجابتي صادمة أحياناً، وهي أنني لم أخرج إلا بخيوط صغيرة من السعادة ترتسم على ملامحي حينما أنجز نصاً جديداً، وهي السعادة التي تلتقطها أمي، يرحمها الله، حينما أكتب، لأنها تستطيع ببساطة أن تصطاد فراشات الكآبة التي ترفرف فوق رأسي حينما أتوقف عن الكتابة، لأنني حينها أتوقف عن الشغف، وعن الحب، ألم أقل ذلك من قبل؟ الكتابة حالة شغف ووجد ووله لا حدود له». وقد تفاعل الحضور بعدد من المداخلات والأسئلة التي أثرت الحوار مع الضيف، وفي نهاية الحفل أقيمت مراسم التكريم حسب تقاليد الاثنينية المعروفة.