«السفارة في العمارة» حالة سينمائية يقدمها الكاتب يوسف معاطي والمخرج عمرو عرفة في وقت عزت فيه السينما أثراً ويثير التفكير في زمن عز فيه التفكير ويطرح أثار العديد من الرؤى السياسية بين رؤى نظام يريد التطبيع وشارع يموج بالرفض ومعارضة التطبيع كافة هذه الرؤى جعلتنا أمام فيلم سينمائي بحق وحقيقة يحمل بين جنبيه رسالة بفكر كاتب وبصمة مخرج وموهبة فنان ووعي سياسي لجمهور سينمائي فضلاً عن وسائل تعبير ومنظومة مكتملة العناصر الفنية من تصوير وديكور وموسيقى ومونتاج وأداء فنانين يضمن وصول الرسالة التي يهدف إليها الفيلم كاملة دون غموض أو نقصان لكونه جاء مثل العدالة الفنية السينمائية بين الجد والهزل بطرحه لقضية التطبيع مع إسرائيل من منظور يرضي الجميع كهدية لفنان مبدع. الفيلم هو آخر إبداعات «الزعيم» ولا يقدم فقط السفارة في العمارة ولا السفير في الاسانسير، ولكنه بدأ بدرة الخليج المصونة وبهجة القلوب والعين التي تحتل قلب الصورة في مستهل عمله «الصاخب الموجه». فرض علينا أن نحتفي بفيلم مثل «السفارة في العمارة» عندما نراه وسط زفة «بوحة» و«خالتي» و«تاكسي اسكندرية» و«أحلام عمرنا»... إلخ، العطاء الجليل المسلي لسينمانا الوطنية.. وكيف لا نفعل والرجل وضع قضية «التطبيع» مع إسرائيل على الشاشة الفضية في هذا الزمن الرديء؟ وحاول مع المؤلف الكبير يوسف معاطي أن «يزيط» المسائل ويرضي الجميع ويجتهد ما أمكن أن يغازل في احتشام أو افتعال كل الأطراف حسب توازن القوى. من هنا فإن أسرة «شهدي» بأفرادها أسرة «منتنة» تفوح رائحتها، بينما تردد الكلام اليساري الوارم القديم الذي عفا عليه الزمن، أسرة فعلاً «رد سجون» عديمة التأثير رغم سنوات الحبس الطويلة التي قضاها كل منهم.. ففي زمن الهيمنة هذا تصبح أسرة «شهدي» والاسم له دلالة - هي الحائط «الواطي» الذي يضرب كل أفراده بالحذاء القديم ومن دون دية، ولكن بمنطق البطل «شريف خيري» زير النساء العجوز الذي يبقى من الأسرة على «داليا شهدي» «داليا البحيري» ومن دون تشويه كبير في «المزة» الأنيقة والأنثى الثائرة ضد التطبيع التي تقود المظاهرات الخائبة التي رأيناها في الفيلم. ولكن كيف لهذه الأسرة المشوهة المسكونة بأوهام الثورة الاشتراكية البائدة أن تنتج مثل هذه الفتاة الغنية اليسارية الجميلة الأنيقة جداً التي يتزوجها «شريف» في النهاية مع انه زواج باطل بالقطع وغزل مرفوض لليسار وتحول يجافيه المنطق، ويرفضه بطبيعة الحال رجل الأمن «راشد سلام» بقوة السلاح إن أمكن مثلما ترفضه كل الأطراف؟ لو احتكمنا الى معطيات الفيلم نفسه فالتوازن موجود ومع وجود مطبات فكرية لا تغتفر. و«راشد سلام» او اللواء راشد سلام (خالد زكي) هو اكثر شخصيات «السفارة في العمارة» «توازناً» انه شخصية ثابتة جذرها في أعماق الأرض المصرية وفروعها قوة ازلية تمسك كل الخيوط في يدها، تمتلك حلولاً لكل المشاكل. تعرف دبة النملة، ولها عيون في كل مكان تعد أنفاس من تسلط عليه عيونها، وشريف خيري مهندس البترول القادم الى مصر من دبي بعد غياب عشرين سنة وقد جاء مضطراً على اثر فضيحة جنسية، يأتي دون ان يدري انه سيهبط فوق عش الدبابير وجيرانه في الباب الملاصق لشقته هم أعضاء السفارة الإسرائيلية والتي يحرسها بالضرورة - جهاز أمن الدولة فعلى باب العمارة فرقة من جنودها، وفرقة اخرى أمام باب الشقة مباشرة. هذا الأمر يضع الرجل المهووس بالنساء الجميلات في مأزق فهو تحت المراقبة اليقظة، وداخل شباك الأمن لا يستطيع الافلات، ولكنه شباك من حرير «فالأمن» في العمارة يقدم له خدمات «فندقية» وعملية فائقة، بشرط تجنب ازعاج السفير واعضاء السفارة. «والحكومة» لها منطقها مع دولة ترتبط معها باتفاقية سلام وهي دولة مكروهة جداً على المستوى الشعبي، ومحروسة أمنياً على مستوى الحكومة حتى لا يؤدي الصدام معها الى حرب نحن في غنى عنها خصوصاً وانها دولة «لبط» لا مؤاخذة يمكن ان تختلق المشكلات او تدعي اشياء لم تحدث. أفضل الشخصيات من حيث التشخيص والتوازن النفسي والسلوكي في الفيلم هي «قوات الأمن» وخذ ايضاً شخصية النقيب طارق (خالد سرحان) الذي يترأس قوات أمن العمارة وضد شخصية تعرف كيف تحتوي المواقف التي قد يتسبب فيها أي قدر من الفوضى يعتمد على حسه الفكاهي ومصريته في السخرية والتلاعب بالألفاظ وايضاً بحسه الوطني القوي الذي يدفعه في الربع الأخير من الفيلم الى التصدي للأذى الذي يتعرض له شريف خيري خصوصاً بعد التحول الذي اصاب شخصيته وجعله مهموماً بالقضية. المؤلف هنا في هذا الفيلم شديد الوعي «بالصورة» التي تعكس رجل الأمن في زمن «التزبيط» او التطبيع ولا يمكن على سلوكه او ترفضه، والممثل عادل إمام ومؤلفه يوسف معاطي مراراً ومن خلال مواقف يتحول فيها ما هو جاد إلى هزل يتفكه به ويسخر منه. المثقفون هنا رمز رديء للضحالة، والانحطاط والجعجعة بلا طحن والجماهير نفسها غوغائية متحولة من النقيض إلى النقيض دون مبررات منطقية، فالرجل زير النساء «شريف صبري» يتحول إلى «بطل الصمود» عندما يرفع صديقه المحامي الخائب قضية ضد السفارة. ثم إلى جبان وانهزامي في نظر نفس الجماهير عندما يسحب القضية. والحالتان - «البطولة والجبن» - تعبران عن وسمة الهزل والضياع الكامل الذي يعيش فيه الناس والمثقفون «وطنيين ويساريين ومحامين وشعبيين». والكل في الضياع ما عدا «الأمن» الذي يعرف كيف يتعامل مع «القضايا»، كل القضايا ما عدا شعبان عبدالرحيم (أنا بكره إسرائيل) الذي سخر منه الفيلم أيضاً ولكنه استغلها للترويج. إن الفكرة التي بني عليها الفيلم حكاية مهندس البترول الذي طرد من جنة «دبي» وجاء إلى جحيم العمارة التي تسكن فيها السفارة الإسرائيلية فكرة جيدة وخميرة صالحة جداً لكوميديا الموقف وأفضل ما فيها ذلك «الموقف الذي جمع بين السفير دافيد كوهين وبين المهندس اللاهي زير النساء وبين السفير والأسرة اليسارية. وقد نجح المؤلف ومعه نجح الكوميديا «المسيس» في إضحاك الناس وفي أشعارهم رغم التوازن الدقيق جداً في تربيط وتزبيط الخيوط التي تمضي على دروبها الشخصية حسب توازن القوى.