لو سألت أي طبيب عن سر العمر الطويل لأجابك بردود كلاسيكية مثل التغذية الجيدة وممارسة الرياضة والراحة النفسية والبعد عن العادات السيئة كالتدخين والسمنة والكحول.. غير أن هذه العوامل - على أهميتها - لا تشكل سوى عناصر متفرقة ضمن منظومة العمر الطويل! الغريب فعلاً هو اثبات أن حملة الدكتوراه يعيشون أطول من حملة الماجستير/ وحملة الماجستير أطول من حملة البكالوريوس/ والبكالوريوس أطول من الدبلوم أو الثانوي.. وهذه النتيجة - الأكاديمية جداً - خرجت من جامعة لندن ضمن بحث طويل عن الأسباب المؤدية لطول العمر على مستوى بريطانيا، ورغم أن الفوارق لا تبدو واضحة إذا طبقت شكل فردي - أو على شريحة صغيرة من الناس - لكنها تظهر جلية إذا روقبت لفترة طويلة على شريحة كبيرة من المجتمع.. فعلى مستوى انجلترا مثلاً يبلغ الفرق بين متوسط اعمار حملة الشهادات العليا والشهادات الدنيا 9,5 سنوات وفي ويلز 8,8 سنوات وفي اسكتلندا 9,1 سنوات.. ويكمن السر هنا في ارتباط الشهادة العليا بالدخل المرتفع والوعي الصحي والرعاية الطبية الممتازة (حسب العدد الأخير من New Scientist)! وفي الحقيقة الحديث عن مستوى الشهادة يعني - بالتبعية - الحديث عن المكانة الاجتماعية ودورها في إطالة أو تقصير العمر.. ففي الغالب ينال صاحب الشهادة العليا مرتبة وظيفية - ومكانة اجتماعية - أعلى من صاحب الشهادة الدنيا، وعلى هذا الأساس يمكن القول ان أصحاب الوظائف العليا يعيشون لسن متقدمة أكثر من أصحاب الوظائف الدنيا (إن تجاوزنا الاستشهاد بالحالات الفردية).. وهذه الحقيقة تم اثباتها على يد البروفيسور مايكل مارموت أستاذ علم الأوبئة والصحة العامة في جامعة يونيفيرستي كوليج في لندن.. فخلال ثلاثة عقود قام مارموت بدراسة العوامل المؤدية لطول العمر وأسباب الاختلاف بين أعمار البشر.. وفي السبعينات نشر ما يعفر باسم «دراسة وايتهول» التي قارنت بين صحة الموظفين الحكوميين في لندن (واتضح من خلالها أن صحة موظفي الحكومة ترتبط بدرجتهم الوظيفية - وان من يحتلون مناصب كبرى يتمتعون بصحة أفضل وعمر أطول).. ونتيجة لهذه الدراسة الفريدة خرجت دراسات لاحقة انتهت إلى نتائج مماثلة تنطبق على الأكاديميين والوزراء والرياضيين والحاصلين على جوائز الأوسكار.. فقد اتضح مثلاً ان الممثلين الحاصلين على جائزة الأوسكار يعيشون ثلاث سنوات في المتوسط أطول من زملائهم، وان العلماء الذين نالوا جائزة نوبل - أو أي جوائز مهمة - عاشوا خمس سنوات أطول مقارنة بمن لم يحصلوا عليها. ويعتقد مارموت أن هذه القاعدة يمكن تطبيقها على أي فئة في المجتمع بدءاً من السياسيين إلى من يعيشون تحت خط الفقر.. وهو اليوم يصر على أن الصحة العامة وطول العمر يتأثران في المقام الأول بمكانة الإنسان وأهميته في المجتمع - وهو ما أطلق عليه اسم «عرض الوضع الاجتماعي».. ويقول في كتابه - الذي أطلق عليه نفس الاسم - «يعتقد الناس ان طول العمر يتحدد إما بالرعاية الصحية أو التدخين أو النظام الغذائي الصحي» ولكن «رغم أهمية هذه الأمور إلا أنها مجرد جزء من الصورة الكاملة ولا يمكن مقارنتها بموقعنا الاجتماعي أو الوظيفة التي نعمل بها».. فبالإضافة للرعاية الصحية الممتازة - التي توفرها الوظيفة المحترمة - يحدد موقعنا الوظيفي نظرتنا لأنفسنا وأهمية الدور الذي نلعبه في المجتمع.. وعلى هذا الأساس يوصي مارموت بأن يمنح أرباب العمل صغار الموظفين والعمال مزيداً من جرعات الاعتزاز والتقدير وأن لا ينظر المجتمع للمتقاعدين والمسنين كآلات انتهت صلاحيتها!!